في سبيل البعث : مقتطفات من '' التراث عزّز صمود الأمة وأعطى للثورة العربية مستواها العالمي ''
زيد احمد الربيعي
لقد ولد الحزب نتيجة للمعاناة التي كانت تعيشها الجماهير العربية، والتحديات التي كانت تواجهها أمتنا وشق طريقه الصعب وسط العداء الشديد، وواجه الكثير من التجني والافتراء، لأن فكرته جديدة وأهدافه كبيرة تشكل خطرا على مصالح فئات عديدة قوية ومسيطرة... وقد لاقى الحزب من عداء هذه القوى ومؤامراتها الشيء الكثير. كما تعرض لمؤامرات ربما كانت أقسى واشد من مؤامرات الرجعية والاستعمار من قبل قوى كان من المفروض ان تكون حليفة له في دروب النضال.
إن الذي أنقذ الحزب دوما، وساعده على مواجهة كل الصعاب والتغلب عليها، ومتابعة الطريق، هو صدقه مع نفسه وصدقه مع الجماهير. و هذا هو الذي فتح له طريقه الى قلوب الجماهير العربية التي احتضنته ومنحته من الفرص ما لم تمنحه لغيره لأنها أدركت، بحسها العفوي وبأصالتها الثورية، الصلة العميقة بينه وبينها، ووجدت فيه المعبّر عن طموحها وأهدافها.
ولد الحزب فكرا وممارسة نضالية في آن معا. ولد من معاناة التخلف في الواقع العربي ومفارقة هذا الواقع مع حضارة العصر ومن العودة إلى التراث فقراناه قراءة جديدة لنهتدي إلى أصالتنا وروح شخصيتنا القومية، وكان مدخلنا إلى قلوب الجماهير لأنها اطمأنت إلى أن الحزب هو من نتاج أرضها وجوها وتاريخها. وبمقدار ما كانت أفكار الحزب ونضالاته تستهوي الشبيبة العربية والجماهير الشعبية، بمقدار ما كان عداء الاستعمار والطبقات الرجعية المستغلة يشتد ضد الحزب وبعنف. وفي أواخر الخمسينات، عندما حقق حزب البعث مع القائد الراحل جمال عبد الناصر أول تجربة للوحدة في هذا العصر، بلغ ذعر الاستعمار والصهيونية والرجعية العميلة أعلى درجاته، فاستغلوا أخطاء التطبيق لتلك التجربة لكي ينقضوا عليها ويضربوها. ولكن نضال البعثيين في العراق كان آخذا في التوسع حتى أصبح تيارا جماهيريا جارفا حقق انتصارا رائعا على الحكم الفردي الشعوبي في ثورة الرابع عشر من رمضان. وكان هذا الانتصار ثأرا للوحدة من مؤامرة الانفصال، وفرصة نادرة لتجديد الوحدة واسترداد المبادرة من يد الاستعمار والصهيونية والرجعية،
في العام الأول لنشوء الحزب، وكان البعثيون لا يتجاوز عددهم بضعة عشر، جاءنا خبر ثورة الحادي والأربعين (41) في العراق، فكانت أول مناسبة يطبق فيها الحزب فكره القومي الوحدوي، فتجند أعضاؤه لهذه الغاية ودعوا الشباب العربي في سورية للتجنيد في منظمة باسم "نصرة العراق" كان لها دعاء يُرددونه هذا نصه:
(اللهم أنت الذي أردت أن يكون العرب امة موحدة قوية هادية تحمل إلى العالم رسالتك، تريد اليوم أن تعود إليهم وحدتهم وقوتهم ليؤدوا هذه الرسالة من جديد. اللهم هب لي قوة الإيمان، وصفاء الفكر، وصلابة الإرادة لأكون جنديا نافعا فعالا في الجهاد الذي يقوم به العراق من أجل وحدة العرب).
وهذا يعني انه منذ البداية كان للعراق دور واضح بارز في تصور الحزب. ولما أصبح للحزب تنظيمه في العراق في أوائل الخمسينات، اعتبرنا أن مرحلة جديدة في مسيرته قد بدأت. وبالفعل فقد تميز ذلك التنظيم منذ بدايته بروح نضالية عالية، وبجدية غير عادية ترجع من جهة، إلى قسوة الظروف السياسية التي كانت تسود العراق في الخمسينات، ومن جهة أخرى، إلى نوعية المناضلين الذين اجتذبهم الحزب. وهذه الصفات التي تميز بها الحزب في العراق، أعطته استمرارية وتجربة نضالية وتنظيمية متراكمة، ساعدته على أن يتغلب على النكسات التي أصابته ويخرج منها أصلب عودا وأغنى تجربة، كما إن هذه الصفات جعلته مؤهلا لان يصبح القلعة الحصينة للحزب كله، يرفد فروعه بما اكتسبه من تجربة، وما وصل إليه من مكانة مرموقة بين التجارب الثورية في الوطن العربي وفي العالم الثالث.
إن نجاح تجربة الحزب في العراق، إلى هذا الحد، وبهذا العمق والرسوخ ليس كسبا لحزب البعث فحسب، وإنما هو عامل قوة للأمة العربية كلها... فلأول مرة، في الحياة العربية الحديثة، تترسخ تجربة ثورية بهذا الشكل، وتمتد جذورها إلى أعماق الجماهير في المدينة والريف وبين كل فئات الشعب وقطاعاته وتصبح مرادفة لحياة هذه الجماهير، ويحصل بين الحزب وجماهير الشعب، تمازج آخذ بالازدياد يوما بعد يوم...
إن حزبا بهذه الصفات، لا يبنيه إلا مناضلون يتميزون بالأخلاق الثورية، وبالجدية في الالتزام، وبالخبرات والتجارب الغنية، وبالممارسات النضالية والروح العملية، ولا شك إن حزبا كهذا، لا بد أن يفرز قيادة بمستوى غير عادي. إن القيادة التي تم على يدها التغيير الثوري واستلام السلطة في القطر، بعد نكستين قاسيتين مرّ بهما الحزب... وبعد نكسة قومية أصابت الأمة كلها في الخامس من حزيران، هذه القيادة أعطت الحزب في العراق مستوى وملامح مميزة، وحققت له قفزة نوعية فجرت إمكانات القطر العراقي لأول مرة بمثل هذا الاتساع والزخم، وجعلت القطر بقيادة الحزب مهيئا للقيام بالمهمات القومية الكبرى. كما انها عملت، انطلاقا من مقررات مؤتمرات الحزب القومية والقطرية على بناء الجبهة الوطنية والقومية التقدمية واستطاعت بعد حوار طويل ومكثف مع القوى الوطنية والقومية التقدمية أن تحقق هذا الهدف.
كما سعت إلى تمتين علاقة الحزب بجميع الفصائل الثورية والقومية التقدمية في الوطن العربي وفي مقدمتها حركة المقاومة الفلسطينية.
ونجحت في إقامة علاقات متينة مع كثير من حركات التحرر في العالم الثالث ومع دول عدم الانحياز. وأقامت علاقات متينة مع الدول الاشتراكية... وكانت في كل هذا تنفذ بأمانة، قرارات المؤتمرات الحزبية...
إلا أ ن المستوى الفذ في تجربة حزبنا في العراق يتجلى في تأميم النفط، وفي المشاركة الفعالة للجيش العراقي في حرب تشرين، وفي حل المسالة الكردية حلا نابعا من مبادئ الحزب الذي لا يكتفي بتحقيق السلام الداخلي والاستقرار فحسب، وإنما هدفه وغايته ان يكون الحل نموذجيا مستلهما من عقيدته الإنسانية، ومن روح التراث العربي الإسلامي.
ان ما نشاهده في الأوضاع العربية من تمزق وتناحر وانهزامية وترد، لهو مما يؤلم لكنه لا يُخيف. فهو إذا نظرنا إليه من الخارج وجدناه ناتجا عن تركيز وتكيف للمخططات الاستعمارية الصهيونية التي ضاعفت أعدادها وتآمرها أضعافا بعد الصدمة التي منيت بها في حرب تشرين من تنامي القوة العربية تناميا غير عادي، وبفترة جد وجيزة، وعلى كل الأصعدة: المادية والمعنوية، القتالية والعلمية والفنية بعد ان كادت هذه القوة الاستعمارية والصهيونية تطمئن الى غلبتها وسيطرتها النهائية على الأمة بعد الانتصار السريع والخادع الذي حققته في الخامس من حزيران.