ابو احمد الشيباني
بعد أن شهدت الأشهر الأخيرة الماضية تسليم العديد من القواعد العسكرية إلى القوات العراقية، تتهيأ القوات الأمريكية الغازية للانسحاب من بلاد الرافدين بحلول نهاية شهر آب الجاري، حسب خطط الانسحاب الأمريكي الواردة في الاتفاقية الأمنية التي وقعتها حكومة العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية في 13 كانون الأول/ 2008. وهكذا يبدو لنا وللجميع ان الرئيس اوباما نفذ فعلا ما وعده للشعب الأمريكي وللعالم في الانسحاب من العراق وتركه (بسلام) لأهله، وبالتالي فقد تكون هذه التغيرات القادمة كموشرات لنهاية اللعبة الأمريكية ووجودها في هذا البلد منذ 2003، وهي في نفس الوقت البداية لمعرفة الحقيقة عن طبيعة الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تم تنفيذها ضمن خطوط الإستراتيجية الأمريكية المرسومة من وجود قواتها الطويل في بلاد الرافدين.
سياسيا، ومنذ اليوم الذي وطأت قدماها في العراق، استطاعت الولايات المتحدة بنجاح صياغة مشروع طائفي ومذهبي، عزّزت من خلاله مفهوم الانقسام والمحاصصة الطائفية وبالتالي زرع بذور الحقد والبغضاء في المجتمع العراقي. ومن خلال هذا التقسيم الطائفي أصبح الوجود العسكري الأمريكي كحليف رئيسي تتسابق اليه الاحزاب المذهبية، ويتقاتل من أجله أُمراء الطوائف ونخبة العراق الجديدة، في الوقت الذي عملت أمريكا ما بوسعها على استقطابهم لصالحها. وهكذا أصبح قادة العراق الجدد حلفاء وثيقي الصلة ب'المحرر' القادم من وراء البحار. وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع الداخلي للفوز بكرسي السلطة في العراق، تسارعت المؤسسات العسكرية والسياسية الفاعلة في الإدارة الأمريكية لوضع لمساتها الأخيرة لإنجاز وتنفيذ فصول سيناريو احتلال العراق وتدميره، ومن ثم تفتيته. وقد لا أبالغ حين أقول بأن هذا التشرذم التي تشهده الساحة السياسية العراقية وتقلبات ساستها وتشبثهم بالسلطة، الذي ازدادت وطأته وتشنجاته منذ إعلان نتائج الانتخابات النيابية في آذار (مارس) الماضي، هو جزء من هذه الإستراتيجية الأمريكية المبنية على مبدأ تكريس الفتنة والانقسام للمكون الاجتماعي والسياسي العراقي.
وعند إلقاء نظرة سريعة لحالة المشهد السياسي العراقي قبل أيام معدودة من بدء الانسحاب الأمريكي تظهر لنا صورة واضحة لانقسام شيعي - شيعي من جهة، وعلماني - طائفي من جهة اخرى، على الرغم من إشارات الإدارة الأمريكية ووعودها الجميلة في الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. وقد تكون الأحداث الأخيرة التي شهدها المشهد السياسي العراقي والمتمثلة في الطلاق الطائفي بين دولة القانون وائتلاف الصدر الحكيم وزيارة السيد علاوي والمالكي المكوكية إلى شمال الوطن العراقي لاستمالة بيضة القبان التي يمُثلها الجانب الكردي، وهم حلفاء أمريكا الحقيقيون، هو الدليل الواضح لهذا النفاق الأمريكي وعقمه الفاضح إذا أخذنا بعين الاعتبار الموقف المزدوج للجانب الكردي في ولائه الظاهر لكل من القائمة العراقية ودولة القانون. وهكذا وبعد استقبال القادة الكرد ومساندتهم للسيد أياد علاوي في الشهر الماضي، يعلن الأكراد وبلسان السيد مسعود البارزاني وعلى الرغم من معرفتهم بحجم الصراع المصيري وخطورته بالنسبة إلى هاتين القائمتين، وحجم تمثيل مكونات العراق الرئيسية فيهما، عن موافقتهم على ترشيح السيد المالكي لولاية ثانية. وعلى الرغم من ان هذا الموقف المزدوج للنخبة الحاكمة في أربيل ووقوفها على مسافة واحدة من المكونات الباقية، فهو في الوقت نفسه يُمثل رغبة أمريكية في أن تكون بيضة القبان الكردية أداة لتكريس الفتنة والانقسام والشرذمة على ما تبقى من رغبة وطنية لإنقاذ العراق المغلوب على أمره. وهنا تكمن فعالية الوجود الأمريكي وأهميته كطرف مُنظم، فعال ورئيسي في قلب المشهد السياسي العراقي، مما يسهل عليه ممارسة الضغوط السياسية على الأحزاب التابعة لهن ومن ثم رسم خارطة طريقها وتحديد مسارها. وبازدياد محاولات الأحزاب السياسية العراقية لإرضاء اليد الأمريكية المتنفذة لتتويجهم كزعماء لحكم العراقن كان الانبطاح والتبعية لهذه اليد الأمريكية من قبل هذه الأحزاب والشخصيات اكبر وغير محدود. وهكذا تنجح الولايات المتحدة في لعبتها ومع لُعبها من الساسة الجدد لتقسيم العراق فهي التي جاءت بعلاوي وعلمانيته وهي التي تريد بقاء المالكي وطائفيته وهي أيضاُ التي وضعت الرئيس العراقي الكردي طالباني في الحكم مع قوميته وجعلت من كردستان العراق المكان الآمن الوحيد، في الوقت الذي تحصد الانفجارات بغداد ومدن العراق الأخرى.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية وبجميع إداراتها القديمة والحالية كل ما في وسعها للاستيلاء على نفط العراق وتنظيم تجارته. لقد كانت مسألة النفط في قلب جدول أعمال فريق المهام الأمريكية في إدارة بوش السابقة، الذي استنتج أن تقلَص الموارد البترولية العالمية وتزايد حاجة قوى كبرى صاعدة، مثل فرنسا والصين والهند له، يفرضان على الولايات المتحدة تعزيز قبضتها على كل منطقة الخليج العربي، حيث أكّد هذا الفريق أن 'حرب النفط' هي خيار 'شرعي' للإدارة الأمريكية، كما سبقتها دعوات عدة للمحافظين الجدد لغزو العراق. انّ الإدارة الأمريكية باحتلالها للعراق سيطرت على أحد اكبر ثلاثة احتياطي نفطي في العالم، إذ تشير الأرقام المتوفرة حول النفط العراقي حاليا إلى انّ العراق يمتلك احتياطيا مؤكدا يبلغ حوالي 115 مليار برميل وهذا يعني علمياً وعمليا انّ أمريكا تتحكّم حاليا بسيطرتها على أهم منابع النفط في العالم واقتصاديات السوق التجاري للدول الكبرى الأخرى. حيث يُمثل هذا السوق التجاري عنصرا مهما إذا أخذنا بعين الاعتبار ان السيطرة على نفط العراق وبقية أنحاء الخليج لا يقتصر هدفه على تأمين حاجة أمريكا من الوقود، بل يتضمن كذلك تأمين الزعامة الأمريكية الدولية، إذ في عالم، حيث القوة العسكرية والاقتصادية للأمم، تعتمد بشكل أساسي على واردات النفط، فإن سيطرة أمريكية أكبر على البترول، تعني نفوذاً أقل لمنافسيها على السلطة العالمية، وبالتالي نجاح الهيمنة الأمريكية على العالم. لقد دأبت الولايات المتحدة منذ البداية على جدولة وتصنيف لمصادر الطاقة في المنطقة، وتقسيم طائفي لدول النفط المراد منه تقسيما طائفيا للنفط: بعد أن سيطرت الولايات المتحدة سابقا على النفط العربي في المملكة العربية السعودية والخليج عملت ومنذ اللحظات الأولى من الاحتلال على تقسيم النفط العراقي طائفيا وقوميا (نفط الجنوب الشيعي ونفط الشمال الكردي) وتحديد استقلالية التصرف به من قبل الإقليم والعملاء الذين جاءت بهم لتسهيل السيطرة عليه.
عسكرياً، وعلى الرغم من هذا النجاح النسبي للإدارة الأمريكية في تحقيق أهدافها في المجالين السياسي والاقتصادي في بلاد الرافدين، فشل الوجود العسكري الأمريكي في العراق في القضاء على روح المقاومة الوطنية وإرغام المجتمع العراقي على تقبل الواقع الجديد والمتمثل في حكومة طائفية فاسدة لم تقدم لشعبها سوى الجوع والحرمان، وغياب للخدمات الأساسية مثلها مثل حكومة كرزاي الفاسدة التي تحاول الإدارة الأمريكية الدفاع عنها، بعد فشلها في إزاحة قوات طالبان عسكريا، مما أدى إلى إرسال 30 ألف مقاتل إضافي من الذين كانوا في العراق. وبالإضافة لفشل الولايات الأمريكية في حربها في أفغانستان، فشل الجيش الأمريكي أيضا في القضاء نهائيا على روح المقاومة الوطنية للشعب العراقي، وهنا أقصد الدور الوطني والتاريخي للمقاومة العراقية بدون استثناء في إلحاق خسائر جسيمة بالمحتل الأمريكي وجيشه. ورغم الصعوبات الكبيرة التي واجها المقاوم العراقي من محاولات لإضفاء طابع حزبي فئوي أو عشائري ناقص على مقاومته الوطنية، بالإضافة إلى الدور الخارجي المُخرب في شرذمة وحدة المقاومة ومحاولة تجيير نشاط بعض فصائلها لدول الجوار الإقليمية على أساس 'قاعدي ومليشاوي إيراني وسعودي وأردني وسوري'، كان للمقاومة الوطنية العراقية شئنا أم أبينا الدور العراقي الوطني والتاريخي في إلحاق خسائر جسيمة بالمحتل الأمريكي وجيشه ومجتمعه، الذي ما عاد يتحمل قتلاه وجرحاه والأعداد الكبيرة من مختلي العقول، ناهيك عن كل ما هُدر من أموال المواطن الأمريكي وخسائره البشرية التي لا تعوض وان تباينت أحجامها في الوقت الحالي.
ولكن وبغض النظر عن هذه الكلفة المادية والبشرية الكبيرة للقوات الغازية في العراق، فقد تستطيع أمريكا مستقبلا من احتلالها لبلاد الرافدين الحصول على موطئ قدم مهم في العراق والمنطقة، وهذا ما سيؤمّن لها وجودا عسكريا مشتركا مع حليفتها إسرائيل للسيطرة على المنطقة، مما سيفتح الباب على مصراعيه لإيران وتركيا للمشاركة والمساهمة في تقاسم النفوذ، نظرا للقابلية العسكرية والبشرية لكليهما. وبغياب الوجود العربي المؤثر بعراق متأثر وبروز تفوق عسكري واقتصادي وإرادة سياسية لهذه الدول الإقليمية، وبما ان الجمهورية الإسلامية تسعى إلى أن تصبح الدولة الأقوى والأكثر تأثيرا في الشرق الأوسط، فمن المُحتمل ان تلحق إيران بتركيا لتصبحا شريكتين مهمتين لأمريكا في السيطرة والإشراف على المنطقة. ومن المُحتمل البعيد أيضا ان تنجح الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا وبمساعدة إقليمية من قبل حلفائها الجدد في تصفية جيوب المقاومة الوطنية العراقية نهائيا وتقسيم العراق فعليا على الخارطة ووأد روح بلاد الرافدين المتجددة في الإنسان العراقي، حينها تكون قد حقّقت (نصراً) عسكرياً ونوعياً مهماً يُكمل ما حققته في المجالين السياسي والاقتصادي ليقرأ في النهاية على العراق الواحد الموحد السلام.