القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق
لا شك(1) أن هذه اللحظة التي تقدمون فيها على أداء القسم للحزب هي لحظة خطيرة في حياتكم. فانتم بالرغم من ان مجيئكم الآن الى الحزب يفترض انكم لم تكونوا في الماضي بعيدين عن فكرتنا، وان أشياء كثيرة مشتركة جمعتكم بالحزب قبل ان تفكروا بالانتساب اليه. بالرغم من هذه الروابط فان عملية الانتساب تبقى عملية خطيرة. اذ ان ثمة فرقا هاما بين ان يلتقي الفرد في كثير او قليل من النقاط مع مبادئ حزب من الأحزاب فتعجبه هذه المبادئ من بعض نواحيها ويروق له ان يشارك الحزب بين الحين الآخر في نضاله وأعماله، الا ان ذلك كله لا يكتسب صفة الجدية الا عندما يقرر القرار النهائي بان يربط مصيره بمصير هذا الحزب وهذه الحركة، فلا يعود التقاؤه بالحزب التقاء عفويا تابعا لهواه ولرغبته وللصدف، ولا يعود التقاؤه بالحزب ومساهمته في بعض نضال الحزب من قبيل التبرع والهبة يقدمها لهذا الحزب الذي ليس هو منه ويستطيع بالتالي ان يمنع عنه هذه الهبة اذا أراد. بين هذه الحالة وبين الحالة التي ينتقل اليها الفرد بعد الإنتساب فرق كبير، لان في الحالة الثانية -بعد الانتساب- لا يعود متطوعا ومتبرعا، بل جنديا يقدم ما يعتبر انه مسئول عن تقديمه وانه إذا تأخر أو قصر في تقديمه فانه يكون قد خان فكرته وخان وجوده.
والواقع ان العلة الاساسية في مجتمعنا العربي الحاضر هي فقدان هذه الجدية في الارتباط، ليس في الأحزاب فحسب انما في الأعمال وفي كل التصرفات. هذا المجتمع الذي ما زال مائعا وضعيفا رخوا لا يوحي بعد لأفراده بجدية الحياة. لان الحياة شيء جدي وخطير للغاية، وانه هو الخطورة بعينها. ان الحياة هي المسرح الوحيد، المجال الوحيد أمام الإنسان لكي يحقق إنسانيته، لكي يحقق شخصيته، لكي يعبر عن جدارته بهذه الحياة، لذلك لا نرى في مجتمعنا بعد علائم الابداع وعلائم البطولة الا نادرا، لان الابداع ولان البطولة لا يأتيان الا من هذا الشعور، هذا الشعور العميق الذي يشعر معه الانسان بأنه مرتبط بشيء أساسي في الوجود، وانه مسئول في كل لحظة من حياته عن أداء واجبه نحو هذا الارتباط.
المفروض اذن في الانتساب الى الحزب الا يكون استمرارا لحالة سبقته. وانما ان يكون قطعا وإنهاء لتلك الحال وبدءا وانطلاقا الى حالة جادة ونفسية جديدة ومستوى جديد. فالذين كانوا انصارا واصدقاء للحزب يشاركون اعضاء هذا الحزب في بعض أفكارهم وفي بعض أعمالهم، يجب الا يفهموا انهم عندما ينتسبون الآن للحزب انهم سيتابعون الطريق الذي كانوا يسيرون فيه ولكن بجد أكثر وبتفرغ أكثر وبعطاء أكثر، لا يجوز ان ننظر الى الدخول في الحزب على انه استمرار للمرحلة السابقة مع تقوية وتنمية لها، وإنما الأصح ان نحاول النظر إليه بأنه حالة جديدة يجوز ان تعتبر نقيضا للحالة السابقة.
فلقد ذكرت لكم بان الحالة الأولى يصح اعتبارها انها تطوع وتبرع. والحالة الثانية -الحالة الحزبية- هي مسؤولية. وقد ندرك المقصد من هذا الكلام -من هذا التفريق بين الحالتين- اذا اعتبرنا ان الاندفاع في فكرة وفي اتجاه تكون قوته بنسبة البعد عنه لا بنسبة القرب منه. بمقدار ما كنتم بعيدين عن فكرة الحزب واتجاهه بمقدار ما تشعرون بالظمأ والجوع الى ان تتشربوا هذه الفكرة وان تدخلوا الى أعماقها، وان تجسدوها في شخصياتكم وفي أعمالكم. وهل ثمة حاجة الى الاستشهاد بحوادث وشخصيات تاريخية؟ من لا يذكر مثلا عمر بن الخطاب؟ الذي كان اكبر مناهض لدعوة الاسلام، ولما انفتح قلبه لها أصبح اكبر عضد واكبر دعامة فيها. وكأن مناهضته السابقة لم تكن الا صورة معكوسة عن استعداده العميق لتقبلها. ولكنه استعداد أصيل لا يقبل السطحية ولا الزيف. ولذلك لم يشأ ان يقبلها دون تمحيص وتشكيك ومراقبة. وكأن مناهضته كانت امتحانا لهذه الدعوة.. بل امتحانا لنفسه. هل هو جدير بها؟ هل تتسع نفسه لها ولعمقها ولجدتها؟ كان يمتحن نفسه… ولما أتم الامتحان أقبل عليها، وكان من المبرزين فيها.
وامثلة اخرى قد تكون معروفة لديكم. ولكني لا اريد من هذا ان اقول ان يُشترط في طالب الانتساب الى البعث ان يكون قد عادى الحزب وناهضه. انما اقصد ان طالب الانتساب الى هذا الحزب يجب ان لا يعتبر مساهمته وقربه وميله الى الحزب مدة من الزمن شيئا كافيا لكي يفهم دعوة هذا الحزب ولكي يرتفع الى مستوى المسؤوليات التي يتطلبها هذا الحزب ويرتبها على المناضلين من اعضائه.
والانتساب الصحيح الى اية فكرة… الى أي موقف جديد في الحياة هو أزمة، ولا كالأزمات هو زلزال في النفس لا يأتي هينا سهلا، لا يأتي تدرجا، لا يأتي وكأن المرء ما غير شيئا من نفسه، وبقي في مكانه. إنما يأتي نتيجة أزمة في النفس، نتيجة انقلاب. الانقلاب الذي يدعو اليه الحزب بذرته هي تلك التي تحدث في النفس عندما تكتشف دعوة هذا الحزب وفكرته.
وكل المستقبل العربي.. كل مستقبل الأمة العربية متوقف على هذا الانقلاب في النفوس. متوقف على هذه الأزمة العصيبة.. على هذا الانتقال المفاجئ من حال الى حال.. على هذا الصراع النفسي الشديد بين حالتين: بين الحالة العادية المألوفة التي لا تنتج الا الضعف والا الفساد، وبين الحالة المرتقبة والتي ستكون نتيجة التمرد على كل ما هو عادي ومألوف ونتيجة توتر شديد وعصيب في الإرادة وفي الشعور لاستخراج أعمق ما في نفوس العرب من إمكانيات غير متحققة، إمكانيات مخنوقة ومهملة. ويتوقف على كل فرد منكم ان ينظر الى هذا الحزب إحدى نظرتين، وبحسب النظرة التي يختارها يكون قد اختار نفسه وعبر عن نفسه وعن إمكانياته اكثر مما عبر عن الحزب وحقيقته.
ان واحدكم عندما ينظر الى الحزب بانه حزب يضم الافراد ليتعاونوا، وليضموا جهود بعضهم الى بعضهم الآخر، هذه الجهود العادية التي ألفوها، وانه لا يطلب من الحزب اكثر من ذلك، اي نظرة عددية.. نظرة كمية تفترض ان هذا الواقع هو واقع حسن لا ينقصه الا تجميع العدد، ويبقى الافراد كما كانوا لا يغيرون شيئا في نفوسهم ولا في عقولهم ولا في ارادتهم، هذه النظرة الكميه السطحية هي واردة ويوجد كثيرون يتبنونها، ليس خارج الحزب فقط بل داخله. وهذا مناقض للحزب. وهذا ضعف يشكو منه الحزب ويجب ان يتخلص منه.
ونظر ة اخرى انقلابية، هي ان الحزب لم يوجد لكي يجمع أعدادا وانما لكي يخلق أفرادا. والخلق تبديل أساسي في النفس في المشاعر والسلوك والتصرف..
وقلت بأن النظريتين متاحتان لكل منكم. والذي يختار يكون في الوقت نفسه قد عبر عن حقيقته. الذي لا يستطيع ان يبدل نفسه.. ان يستخرج منها القوة الخلاقة الكامنة ليتغلب على ما فيها من استسلام فيختار النظرة الكمية -الزائفة- السطحية. والذي يختار النظرة الإنقلابية يكون قد عبر عن نفسه، اذا كان جادا في اختياره، واذا كان يعني ما يقول، فأنه مصمم على تبديل نفسه.
لذلك لا يصح ان تدخلوا الى الحزب وانتم منتظرون منه ان يعطيكم كل شيء وان تكونوا منفعلين آخذين لا تعطون ولا تقدمون. لا تظنوا ان الحزب شيء موجود خارج نفوس أعضائه فالحزب هو أعضاؤه. الحزب هو كل واحد منكم، وكما تكونوا يكن الحزب، وكما تريدوا ان يكون الحزب.. يكن. هذه النظرة هي اعتماد على شخصيات الأعضاء وعلى دافعهم الذاتي العميق هي التي تضمن لحزبنا النمو.. أن يتغلب على الضعف وان يرتقي ويقفز حتى يصل الى المستوى الذي يمكنه من تحقيق اهدافه وغاياته.
عام 1950
(1) حديث خاص بالذين تقدمون لأداء القسم الحزبي، القي عام 1950.