الجزء الثالث من المقال نفسه
حياة الرسول خلاصه لحياة العرب -ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
ان ارواح ابطالنا لتجوفنا وتهجرنا منذ زمن طويل، لان البطولة لم تعد مزايا العرب المالوفة، ويخشى ان يكون هذا التعظيم العامي للرسول الكريم معبراً عن القصور والعجز اكثر منه تقديراً للعظمة، فقد بعد عهدنا بالبطولة حتى أمسينا ننظر اليها نظرة خوف ورهبة واستغراب كأنها من عالم غير عالمنا، في حين ان التعظيم الحقيقي للبطولة انما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة، فلا يقدر البطل الا الذي يحقق ولو جزءا يسيرا من البطولة في حياته.
حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالاحرى ما دام هذا الرجل فردا من افراد الامة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.
الاسلام تجدد العروبة وتكاملها-رجل من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو اليها البشر، ولم يكن البشرحوله الا عربا فاستجاب للدعوة نفر قليل وقاومها اكثرهم، فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون الى أن انتصر الحق فآمن به الجميع. فملحمة الاسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو ارض العرب، وعن ابطالها والعاملين فيها وهم كل العرب. مشركو قريش ضروريون لتحقق الاسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسرل ساهموا في ظفر الاسلام كالذين ايدوه ونصروه. ان الله قادر ان ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى اكثر من عشرين عاما، وهو قادر ان ينصر دينه ويهدي اليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر ان يظهر الاسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه اظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها الا مكابر، هي اذن، ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الاسلام كان بسبب مزايا وفضائل اساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الاسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها الى البشر، وأن تأجيل ظفرالإسلام طوال تلك السنين، كان بقصد ان يصل العرب الى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي ان يخرج الايمان وينبعث من اعماق نفوسهم، فيكون الايمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة.
فالاسلام اذن كان حركة عربية، وكان معناه : تجدد العروبة وتكاملها. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة في طريق الزوال. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي، ولكن العربي الجديد، المتطور، المتكامل. وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الامة اسم "وطني" أو "قومي" مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب، كان المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي.