عزالدين القوطالي عضو ذهبي
عدد الرسائل : 113 العمر : 56 12/12/2007
| موضوع: عن الشهيد الدكتور سعدون حمادي : سألني سائل فأجبت الثلاثاء يونيو 10, 2008 4:17 am | |
| عن الشهيد الدكتور سعدون حمادي
سألني سائل فأجبت
في إحدى المقاهي الشعبية بالقطر التونسي أين يلتقي الأصدقاء وزملاء الصف في الدراسة والمهتمين بالشأن الثقافي والسياسي يحلو الجلوس أمام شاشة التلفزيون لمتابعة مستجدات الأخبار العربية والعالمية لتكون منطلقا لحديث ذو شجون في وضع الأمة ومستقبلها وحوار متبادل حول القضايا المصيرية التي تؤرق الوطن والمواطن في البلاد العربية ونقاش هادف من أجل الوصول إلى حقيقة الأنباء المتواترة في كل لحظة والمتهاطلة علينا كالمطر المنهمر من كل حدب وصوب والتي تصل في بعض الأحيان إلى حد التناقض مما يساهم في إثراء الحوار وتعميقه وإعادة ترتيب وتحيين المعلومات المتوفرة.
وقد كان إعلان وفاة الدكتور سعدون حمادي مناسبة لطرح أسئلة متعددة حول شخصية هذا الرجل ودوره في بناء العراق الحديث قبل ثورة 17/30 تموز 1968 وبعدها وإسهامه في ترسيخ مبادئ الثورة العربية وما اضطلع به من مهام ثورية تقدمية ومسؤوليات جسام تحمل أعباءها بكل وثوق واقتدار ونجح في إنجازها نجاحا يشهد له به العدو قبل الصديق.
وفي هذا الإطار سألني أحد الأصدقاء قائلا: ما الذي يميز هذا الشخص عن بقية العراقيين والغالبية العظمى من أبناء شعبنا العربي حتى يلقى هذا الاهتمام عندك ويشكل محورا للنقاش وقد توفّي قبل ذلك مئات من المثقفين والسياسيين والقادة ولم تولهم نفس الاهتمام؟؟؟ فأجبت بكل حسرة ولوعة وأسى: ليته كان مثلهم لهان أمره وتيسّر عزاؤه ولكنه يمثّل نوعا خاصا وفريدا من مثقفي وقادة هذه الأمة وهذا ما جعله يرتقي أعلى مراتب الشرف حين ولد وحين مات وحين يبعث حيا.
فسعدون حمادي يمثّل ذلك الجيل العربي الذي حمل منذ نعومة أظافره لواء الوحدة والحرية والاشتراكية وآمن بقدرات الشعب العربي المختزنة في ذاته وناضل من أجل رفع راية العروبة والإسلام في مختلف الأقطار العربية وكابد مع ثلة من رفاق دربه من أجل إعلاء كلمة الحق في زمن الباطل وتحمّل مشاق ومخاطر العمل السري في العهدين الملكي أيام لنوري السعيد والجمهوري أيام عبد الكريم قاسم والأخوين عبد السلام وعبد الرحمان عارف وأفنى حياته في سبيل بناء عراق حرّ مستقلّ قويّ متقدّم يشكّل نموذجا لحيوية هذه الأمة وقدرتها على النهوض في أشدّ الظروف وأخطر التحديات.
ولعلّنا لا نضيف أي جديد حين نقول إن الدكتور سعدون حمادي كان من أوّل الحاملين للواء البعث العربي الاشتراكي في العراق إذ كان له شرف التبشير بأفكار وأطروحات حزب البعث وبناء أوّل خلية حزبية بمدينة كربلاء صحبة المناضل التونسي أبو القاسم محمد كرّو الذي درس بالقطر العراقي في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن المنصرم وقد نجح الدكتور سعدون حمادي بظرف وجيز في بناء التنظيم الحزبي وسط بيئة دينية بحتة إذ تمكّن من تجاوز حالة الانغلاق التي كانت تميّز الوسط الشيعي في كربلاء والتحرر من " الغيتو" الذي فرض على أبناء المدينة وجعلهم مكبّلين بأغلال الطائفة والمذهب ومنعهم من الانخراط في العمل السياسي والوطني فكان الدكتور سعدون حمادي المنحدر من عائلة شيعية عريقة أوّل المنتفضين على حالة الركود والخمول التي فرضتها المرجعية الدينية تحت غطاء تعطيل باب الجهاد حتى ظهور الإمام الغائب وهذا ما يفسّر الموقف الصارم والحازم الذي إتخذه الشهيد الدكتور سعدون حمادي من الطائفية والتمذهب منذ بداية انخراطه في العمل السياسي والى تاريخ وفاته منفيّا بعيدا عن الوطن وفي هذا الإطار يقول الحاج علي القيسي رئيس جمعية ضحايا سجون الاحتلال الأمريكي في مقالة بعنوان – ذكرياتي في الأسر مع الشهيد الدكتور سعدون حمادي – منشورة بموقع شبكة البصرة وكان الحاج علي القيسي رفيق درب الشهيد في معتقل الفيجي لاند الأمريكي: ((إن أكثر ما أعجبني فيه الابتعاد عن النظرة الطائفية والعرقية حيث قال لي رحمه الله : كنت أرأس لجنة ثقافية تتابع الكتب التي تدخل أو تطبع في العراق وكان حرصنا في هذه اللجنة منع كل ما يثير النعرة الطائفية أو العرقية فلو كان الكتاب من عدة مجلدات ووجدت به جملة تدعو للطائفية أو التعصب العرقي يرفض كلّ المجلّد...)).
ذلك هو الشهيد الدكتور سعدون حمادي الذي نشأ في وسط ديني سرعان ما انتقده وانتفض عليه وسعى من أجل تغييره من خلال التأكيد على أن الطائفية مرض خطير ينخر جسم الأمة وورم سرطاني لا شفاء منه ويجب استئصاله وأن التقوقع داخل "الغيتو" الشيعي هو حالة انهزامية ورضاء بالأمر الواقع واستسلام للقدر لا مبرر له ولذلك أراد رحمه الله أن ينتقل إلى أفق أرحب وأوسع بعيدا عن السجن الانفرادي الطائفي حيث تكون مصلحة الأمة فوق مصلحة الطائفة ومستقبل الوطن قبل مستقبل المذهب ولقد كان سفره إلى القطر اللبناني سنة 1952 مناسبة لمتابعة دراسته العليا في الجامعة الأمريكية ببيروت أين تحصّل على درجة الماجستير في العلوم الاقتصادية وتمكّن من الاحتكاك بثلّة من الشباب العربي من مختلف الأقطار مما ساهم في بلورة موقفه القومي التقدمي وترسيخ مبادئه وقناعاته وعقيدته في ضرورة وحتمية الوحدة العربية لمواجهة الهجمة الصهيونية والتآمر الإمبريالي على الوطن العربي وكانت بيروت في تلك المرحلة ملتقى للمثقفين العرب وقلعة للفكر العربي الحر ومنارة للعلم ومحضنة للحركات والأحزاب القومية التقدمية ففيها نشأت حركة القوميين العرب ومنها إنتشرت أطروحات وأفكار ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وقسطنطين زريق وأكرم الحوراني وأنطوان سعادة وخالد بكداش وغيرهم نتيجة لازدهار حركة الطباعة والنشر.
وبعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة وسكونسن الأمريكية سنة 1956 عاد الشهيد الدكتور سعدون حمادي إلى العراق ليتابع نشاطه الحزبي والوطني إذ أسّس أوّل لجنة ثقافية في حزب البعث قبل ثورة تموز 1958 إيمانا منه رحمه الله بضرورة تحقيق ثورة ثقافية شاملة في الوطن العربي عبر نشر المفاهيم الثورية ومحاربة التخلف الفكري والانحطاط الثقافي ولقد بذل الشهيد حمادي من وقته وجهده وماله الكثير ليصبح حزب البعث في ظرف وجيز أحد أهمّ الحركات والتنظيمات الحزبية في العراق الحديث ولعلّنا لا نبالغ حين نقول إن بذرة البعث العربي الاشتراكي في العراق لم تكن لتنمو وتترعرع لولا جهد ومثابرة الشهيد الدكتور سعدون حمادي الذي كتب عليه النضال والملاحقة الأمنية كما كتب على الذين من قبله إذ سرعان ما تقع ملاحقته من طرف حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة تموز 1958 ليستقرّ به المقام من جديد في المنفى بالقطر الليبي وبما أن الرجل مجبول على الحركة والفعل والنضال فإنه لم يستسلم للخمول والقعود عن ممارسة واجبه القومي التقدمي إذ ساهم مع ثلة من الشباب العربي الليبي في تأسيس منظمة حزب البعث هناك مما دفع بالحكم الملكي السنوسي إلى اعتقاله بتهمة التخطيط للقيام بحركة انقلابية ومحاكمته بالسجن لمدة ثلاث سنوات قضاها كاملة دون نقصان وبعد إطلاق سراحه ألتحق رحمه الله بالقطر السوري أين ساهم مع رفاق دربه في إثراء تجربة الحكم الثوري هناك عير العمل داخل مؤسسات الحزب الثقافية كما تولى إعادة تنظيم صفوف الحزب في العراق وقيادة العمل الحزبي بوصفه عضوا لقيادة قطر العراق للحزب ضدّ حكم عبد الكريم قاسم وقد تمكّن من إسقاط الحكم الديكتاتوري في شهر رمضان سنة 1963 ليعين وزيرا للإصلاح الزراعي ولكن بعد بضعة أشهر فقط يعود من جديد إلى المنفى على إثر انقلاب 18/11/1963 ليستقرّ في القطر السوري ويزاول نشاطه السياسي والحزبي مستفيدا من جملة النكسات والتجارب السابقة في الحكم ومستلهما العبر من الأخطاء التي وقع فيها الحزب محاولا تداركها وتجاوزها وعدم تكرارها ولهذا عقد العزم صحبة القيادة على استرداد زمام المبادرة من خلال تفجير ثورة 17/30 تموز 1968 وإرساء دولة البعث العربي الاشتراكي في العراق لتفتح صفحة جديدة من النضال الإيجابي والجهاد الأكبر في سبيل التنمية والبناء والرخاء لجماهير شعبنا العربي في بلاد الرافدين ولقد حرص الشهيد الدكتور سعدون حمادي منذ الوهلة الأولى على تحقيق أهداف الثورة المتمثلة في استعادة السيطرة على ثروات البلد من خلال تأميم النفط العراقي وطرد شركات الاحتكار العالمية وتطوير الصناعة الثقيلة والاهتمام بالتنمية الزراعية فترك بصمته في كلّ مسؤولية شغلها بداية من شركة نفط العراق مرورا بوزارتي النفط والخارجية وصولا إلى رئاسة المجلس الوطني العراقي فكان بحقّ صوت الشعب الذي لا يخفت أبدا وذلك هو حال المثقف الثوري في كلّ زمان ومكان يستثمر فكره الوقاد ومبادئه الخالدة لخدمة الأمة ويوظف قناعاته وعقيدته لتحقيق آمال وطموحات الشعب وكما يقول الكاتب شاكر الجوهري في الحقائق اللندنية 16/03/2007: ((رحم الله الدكتور سعدون حمادي فمثله يتوجب الترحم عليه بمقدار ما خدم وطنه العراق وأمته العربية وابتعد عن الطائفية والمذهبية المقيتة فلم يكن حمادي سياسيا فقط لكنه كان مفكرا قوميا كبيرا قبل أن يكون سياسيا وقد وظف فكره الوقاد في خدمة ورسم سياسات قومية حكيمة...)).
فمسؤوليات العمل الرسمي في أجهزة الدولة لم تقف حائلا دون ممارسة الشهيد الدكتور سعدون حمادي لنشاطه الفكري والعقائدي والثقافي عير تأليفه لمجموعة من الكتب العقائدية والسياسية كان آخرها كتاب - مشروع الوحدة العربية ما العمل؟ - وتشجيعه لمؤسسات الفكر والثقافة في الوطن العربي إذ أسهم سنة 1976 في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وتولى رئاسة مجلس أمنائه سنة 1991 وليس بخاف على القارئ الكريم الدور الطلائعي الذي لعبه المركز في إثراء الثقافة العربية وتنميتها وتطويرها والجهد الضخم الذي بذله ولا زال في التبشير بالوحدة العربية والعمل من أجل تحقيقها والفضل كلّه يرجع للحقيقة والتاريخ إلى الشهيد الدكتور سعدون حمادي بشهادة من ساهم في بعث المركز كرفيق دربه الدكتور خير الدين حسيب والدكتور بشير الداعوق ويوسف الصايغ وغيرهم.
ورغم كبر سنّه وتقدّمه في العمر (79) سنة وأسره من قبل قوات الغزو الأمريكية لمدّة تسعة أشهر كاملة بدون رعاية صحية وفي ظلّ ظروف الاحتجاز القاسية فإنه لم يتراجع قيد أنملة عن المبادئ التي آمن بها وناضل من أجلها ورفض كلّ الإغراءات التي قدّمت له لقاء مشاركته في ما يسمى بالعملية السياسية وإسهامه في حكومة الذلّ والعار بقيادة العميل نوري المالكي وفضّل العيش بعيدا عن الوطن على أن يبيع العراق للغزاة المحتلين وكما عاش الشهيد الدكتور سعدون حمادي النفي والاغتراب والملاحقة والبعد الجبري عن الوطن والأهل والأصدقاء في أغلب مراحل حياته السياسية والنضالية فقد أكمل حياته بعيدا عن بلاد الرافدين وقلبه يخفق حسرة على ما آل إليه العراق في ظلّ الاحتلال وما فرّط فيه العراقيون من شرف وكرامة ووحدة وانسجام داعيا من جديد أبناء شعبه إلى الوحدة والتماسك من خلال وصيته التي خاطب بها أبناءه قائلا: ((أوصيكم أن يكون مدفني في مدينة كربلاء وأن يرسم على وجه الضريح خارطة الوطن العربي بحدودها الخارجية وأن يكتب على الضريح بالعربية الواضحة: أيها المواطنون عليكم بوطنكم العربي وحدوده في دولة قوية تقدمية فليس غير الوحدة العربية ما يحقق لكم الأمن والنهضة والتقدم وهي لا بدّ متحققة بإذن الله وجهادكم...)).
ملاحظة: عنوان المقال مستلهم من عنوان أحد مؤلفات الشهيد الدكتور سعدون حمادي وهو كتاب: عن القومية والوحدة العربية (سألني سائل فأجبت) الصادر سنة 2000 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عزالدين بن حسين القوطالي تونس 09/05/2007
[/center] | |
|