ليس يجدر بنا(1) في هذا الظرف العصيب الذي تجتازه معركة فلسطين أن نعود إلى الماضي ونذكر أخطاءه الفاحشة. بل الأجدر بنا أن نحصر تفكيرنا وعملنا في كيفية إنقاذ الموقف وإنقاذ سمعة الأمة العربية ومستقبلها.
إن الدروس القاسية التي ألقتها الحوادث علينا في الأسبوعين الأخيرين لجديرة بأن تقنع رجال الحكومات العربية بأن سياستهم معكوسة فاشلة وان أفضل سياسة يتبعونها في هذا الوقت هي أن يكفوّا عن كل سياسة ويضعوا قضية فلسطين بين أيدي المقاتلين بعد أن يجهزوهم بكل ما تقتضيه حرب حديثة جدية قاسية.
لقد كان مفروضاً أن تكون معركة فلسطين منذ البدء معركة العرب جميعاً. لان مصيرهم مرتبط بمصيرها. ولكن السياسة المعكوسة عملت على خنق وتبديد إمكانيات الشعب العربي بشتى السبل. وأدت إلى أن عرب فلسطين أنفسهم ظلوا بأكثريتهم الساحقة بعيدين عن المعركة وعبئاً عليها، لا يجدون إلى أداء واجبهم سبيلا.
والآن، يهمنا أن نحسن الاستفادة من هذه التجارب الأليمة لنحول مجرى المعركة تحويلا أساسياً لمصلحتنا ونضمن النصر لقضيتنا فالحرب التي تدور رحاها بيننا وبين الصهيونيين لا تشبه معارك الاستقلال التي خضناها ومازلنا نخوضها ضد قوى الاستعمار.
اذ إننا في هذه الحرب نعمل لأول مرة كعرب متحدين متضامنين من سائر الأقطار. ونكافح عدواً مهما قيل في قوة استعداده وكثرة وسائله، فهو أقل من أن يقاس بجزء من القوى الاستعمارية التي نكافحها. لذلك لم يكن جائزاً أن تبقى المعركة بيننا وبين الصهيونيين طوال هذه الأشهر معركة دفاعية وان نقنع بالتكافؤ مع عدونا. لان العدو لم يكن يطمع في أكثر من الصمود لقوتنا. ولأن مجرد التكافؤ مع هذا العدو يصيب معنوياتنا في الصميم. إذ يجوز كل شيء إلا أن تتعادل الأمة العربية مع عصابات الصهاينة. أذن فأول ما ينبغي عمله هو ان تصبح القوات العربية المحاربة، في عددها ومعداتها، أصدق ما يكون تعبيراً عن إمكانيات الأقطار العربية. وأن تشجع بصورة خاصة إمكانيات عرب فلسطين ويستفاد منها إلى أبعد حد ممكن. لأن الغاية من اشتراك الأقطار العربية لم تكن تعطيل هذه القوى بل دعمها وتأييدها.
ومما لا يقل عن ذلك أهمية هو أن تصبح معركة فلسطين أصدق ما يكون تعبيراً عن روح النهضة العربية الحديثة فالمجال واسع أمامنا لكي نجعل من هذه المعركة المرتجلة حرباً نظامية تتحقق فيها عناصر الوعي والتنظيم المتفتحة في أفراد شعبنا. ويمسك زمام التوجيه الشامل فيها جميع الذين يمثلون الإيمان بوحدة الأمة العربية وبمؤهلاتها العظيمة للتحرر والأبداع ما دامت معركة فلسطين معركة العروبة الفتية الناهضة.
إن جيل الشباب المثقف المؤمن هو وحده قادر على توجيه الأفكار الحائرة وابتعاث القوى الكامنة، وتنظيم الجهود المشتتة. سواء في الجبهة الداخلية أو في خطوط القتال. وهو وحده قادر على الارتفاع بمجهود العرب إلى مستوى المهمة الشاقة التي تنتظرهم.
إن النواقص والأخطاء التي تيسر لنا مشاهدتها في الجبهة الداخلية كثيرة وخطيرة. وهي بحاجة إلى إصلاح جدي وتدارك سريع. ولكننا لم نكن في يوم من الأيام أكثر تفاؤلاً بالنصر مثلنا الآن بعد أن لمسنا لمس اليد بطولة جنودنا وأفراد شعبنا وتصميمهم على تخطي المصاعب والعقبات مهما كلفهم ذلك من تضحيات.
8 أيار 1948
(1) كتب الأستاذ ميشيل عفلق هذا المقال خلال وجوده في جنين (فلسطين) لقيادة مجموعات المتطوعين البعثيين مع زميله البيطار، وقد نشر في جريدة "البعث" في 8 أيار 1948.