عزالدين القوطالي عضو ذهبي
عدد الرسائل : 113 العمر : 56 12/12/2007
| موضوع: ميشيل عفلق ... الفكرة والأسلوب الجمعة يونيو 13, 2008 5:05 am | |
| ميشيل عفلق ... الفكرة والأسلوب عبد الجبار محسن إن نقطة البداية في تصحيح آثار المرحلة السابقة كما يبدو لي هي نفسها نقطة بداية العمل قبل ربع قرن : الرجوع الى ينبوع القوة الحقيقي الرجوع الى الشعب ومصارحته بالحقائق . لقد كان بحث عوامل النكسة في فلسطين متعبا وشاقا في كثير من الأحيان بصورة ربما فاقت محنة النكسة ذاتها فلقد ضاعت الحقيقة الصغيرة بين أكداس البحوث وأختفت العوامل الحقيقية التي جاءت بالخامس من حزيران في خضم عوامل كثيرة سطرها مفكرون وكتاب وجعلوها تمتد علة مساحة زمنية شاسعة هي المسافة التي تفصل الأرض عن السماء . والإكثار من الكلام الذي سمح به لأيام معدودات بعد النكسة لم يكن عملية تضليل فحسب إنما كان عملية تنفيس أيضا قصد منها الحيلولة دون تبلور الوعي الى الثورة . لقد كان أهم ما يميز مرحلة ما قبل حزيران والمرحلة التي تلتها هو أن الجماهير ظلت خارج الأحداث خارج وجهات النظر المصوغة من قبل الحكام وكثير من الأحزاب ؛ وإذا كانت عزلة الجماهير ترد قبل ربع قرن مضى الى ضمور الوعي الثوري فإن جماهير حزيران كانت واعية لكنها مقيدة مرّة بإرهاب يفوق قدرتها على التحدي ومرة بتضليل يفوق قدرتها على التحليل . وميشيل عفلق كان منذ تأسيس الحزب وقبل تأسيسه واثقا بالجماهير مدركا أن المصيبة تكمن في عزلتها أو في عزلها بتعبير أدقّ لكن مشاركتها آتية لا ريب لذلك فإن التفاؤل يملك مبرراته . لقد كان الرجل متفائلا حتى لتشعر في أحيان كثيرة كأنه يتجاهل تفاهة الوسائل المتاحة لتحقيق الهدف ومواجهة المصاعب المغروسة على الطريق إليه . ودون أن تشعر تجد نفسك في حومة الواقع محكوم عليك بالنضال فالثورة قدر : (( قد يكون قاسيا لكنه محبب شهي فهو لا يوزع البطولة إلا بنسبة الصعوبة ولا يورث المجد إلا بقدر الجهد ...)) . ويبقى السؤال كما هو : هل لهذا التفاؤل ما يبرره أم ن قبول النضال في ظروف الوطن العربي لا يزيد عن عملية الإنتحار ؟؟ وكي ما تجيب عليك دائما أن تسأل ... ما هي تلك القوة التي تجعل الأمل مهما كان خطيرا ممكنا وطوع البنان ؟؟ وببساطة تجد أن الكلمة الطيبة كما يقول غوركي : (( لا تموت وهي عندما تولد مرة فإنها تحلق حول العالم أجمع كما يفعل طير السنونو ...)) . وكلمات ميشيل عفلق كتبت لا لتحلق إنما لتستقر في قلوب الناس فالإيمان يسبق المعرفة وهذه المقولة تبدو جميلة بمقدار ما تبدو غير معقولة لأول وهلة وهي تشير الى حقيقة أساسية وهي أن القومية العربية وجماهيرها حقيقة حية ووجود سابق لكل معرفة كما أنها تشير الى أننا لم نعد أمام قائلها نتحدث عن رجل سياسة . فالسياسة عملية حساب تحدد موقفا من الأحداث ولهذا نجد أن مواقف الساسة منفعلة بتوقعات الربح والخسارة لكن ميشيل عفلق أراد للسياسة العربية أن تخرج عن هذا الإطار كي ما تصبح جماهيرية .. أراد أن تبدأ مؤمنة بالجماهير ثم تتعرف على طريقها من خلال ما تقدمه هذه الجماهير من معرفة وما تمنح من إمكانات. ولنعد الى نقطة البداية فالجماهير هي المعلم لكنها أهملت فكان حزيران وسر الألم يكمن في أن الجماهير لم تهمل من أعدائها فقط فمثل هذا الإهمال هو أمر طبيعي عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية . عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين أحدهما يدافع عن القديم والثاني يدافع عن القيم الجديدة ويكون هذا الإنقسام شكليا ومؤقتا في الواقع إنما أهملت أيضا الجماهير من الذين صعدوا على أكتافها ملوحين بشعاراتها مكتفين في النهاية من الشعار باللفظ مباركين في الحقيقة منطق الرجعية في أن الجماهير لا تعي ولا تفهم وهي بحاجة الى من يرشد ويقود ويفرض الوصاية عليها ليجرها بالنتيجة الى موارد التهلكة . ومن قيادة ( حكيمة ) الى قيادة (حكيمة ) سقطت الجماهير أو كادت تسقط في وهدة اليأس والقنوط ولقد وقفت هذه الوقفة الطويلة عند إصرار ميشيل عفلق على دور الجماهير يقينا مني بأن هذا الإيمان أو هذا الإصرار هو سر التفاؤل الذي طبع فكره وسلوكه فثقته بجموع الكادحين ثقة مطلقة إنه واثق من أن هذه الجموع ينبغي لها أن تؤمن بالأهداف التي آمن بها وإن لم تؤمن حتى الآن فهي مؤمنة بها في مستقبل قد يكون بعيدا لكنه قادم على أية حال وهذه الأهداف لا يدعي أنه صاغها بنفسه ولا يفترض أنها حتى من صياغة حزبه إنما هي والحزب الذي يعبر عنها صياغة تاريخية مخاض عن الزمن الراهن الذي تجتازه العروبة لاهثة الأنفاس مدماة الأقدام شاخصة البصر والبصيرة نحو الشمس . فالحزب هنا وأهداف الحزب أيضا كلاهما ضرورة تاريخية وعلينا أن نميز بينما هو ضروري بحكم التفاعل الداخلي في رحم الأمة ثم بحكم التفاعل بين هذه الأمة والعالم من حولها ؛ وبينما هو ضروري وحتمي بإعتباره ردة فعل سلبية وميشيل عفلق لا يؤمن بأن أيا من الحزب أو الهدف ردة فعل لعوامل السلب في بنية الأمة فما كل نقيض يملك بداهة معنى جواب الفعل . إن ردة الفعل كحقيقة فيزيائية يمكن تجنبها على مستوى المادة أو المجتمع بإستعمال وسيلة ما لإمتصاصها وردة الفعل أيضا عارضة تزول بزوال الفعل فورا أو بعد زواله بقليل لكن الوحدة باقية بعد التجزئة وهي موجودة قبلها والحرية باقية بعد زوال العبودية وهي موجودة قبلها والإشتراكية باقية بعد زوال الإستغلال وكانت ماثلة قبل أن يطرح الإستغلال نفسه مشكلة حادة في القرن التاسع عشر . إن هذه المبادئ المتفاعلة مع بعضها تفاعلا وظيفيا لهي شاخصة في نزوع الأمة نحو العدالة والمساواة وهي لا تعني وضعا للعرب على الخط التقدمي من مسيرة الإنسان المعاصر إنما هي جزء لا يتجزأ من التقاليد العريقة لشعب عظيم . إنها في إستمراريتها رسالة لكن كيف تكون رسالة وهي بنت الحاضر بينما لم يحن وقت الرسالة بعد ؟؟ والجواب هنا أن الرسالة تمتد للمستقبل كما هي موجودة في الحاضر ومطلة من الماضي إنها دائمة ومتجددة ( إن الرسالة الخالدة هي الآن في طور التحقيق إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية وهذا القبول بأن تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي إنتابت حياتهم ومجتمعهم هذه الصراحة في رؤية عيوبهم والإعتراف بها وهذا التصميم على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر هذه التجربة المملوءة بالكوارث هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة ...)) . وليس في هذه الكلمات وحدها إنما في كل ما كتبه ميشيل عفلق تلمس مثالية مطلقة وعاطفة ساخنة وتقدمية متوغلة الجذور في الماضي وهي أمور قد يتبرأ منها الكثيرون بإعتبارها تهما خطيرة لكن الرجل واقعي في نظرته للمثالية كثيرا ما تقترن المثالية بإسم البعث العربي وأعضائه تارة تقذف على سبيل النقد ويراد فيها أن البعثيين غير واقعيين وتارة تقال في معرض المدح ولكن أشكّ كثيرا في أن الذين يمتدحوننا بهذا النعت يدركون تماما ما نفهمه من المثالية . مثاليتنا هذه الروح المتفائلة الواثقة من نفسها ومن الأمة ومن المستقبل هذه الروح المؤمنة التي تعتقد أن المبادئ السامية لم توجد للتطرف بالكلام عنها ولم توجد لتكتب على الورق وإنما هي الحياة بعينها هذه المثالية هي في أن نعيش في صميم هذا الوسط الذي نرى مفاسده في كل ناحية والذي صممنا على محاربته والظفر عليه دون أن نفقد أملنا بأن يخرج من صميم هذا الوسط الفاسد نور الحياة العربية ؛ إنها في أن نكون على إتصال دائم مع المجتمع وعلى إتصال دائم أشدّ وأوثق في الحياة مع مبادئنا وروح أمتنا . ومن الواضح الآن أن مثالية ميشيل عفلق تتجسد واقعية صارخة لا تستطيع حمل عبئها إلا القلة المؤمنة التي تخرج من فساد الواقع وسلبياته لتنفصل عنه لتكون في خضمه جزيرة توحي بالمستقبل وتجسد ما يجب أن تكون عليه الحياة في مقبلات الأيام ( فالبعثي هو صورة أمته في مستقبلها ...)) أو هكذا يجب أن يكون وكي ما يكون كذلك فإن عليه أن يحقق الإنقلاب ليس له إلا معنى صريح واضح هو الصراع والمعاكسة العقلية والخلق والمصالح السائدة (( إن الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع يوصل الأمة الى هدفها يخطؤون أيما خطأ فلو فرضنا أن الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجأة بفعل صدفة من الصدف فنعتقد ن هذا التغيير لن يتناول إلا الظواهر لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها فالواقع ليس شيئا ماديا متجسما في الأوضاع السياسية والإجتماعية فحسب إنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة ويمكن القول إن كل فرد يحمل أثرا من آثار هذا الواقع فالفرد الإنقلابي هو الذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل أن يصارعه في المجتمع وفي الأوضاع المادية ولا نقول هنا أن مجرد الإيمان لا يكفي إنما نقول إن الإيمان لا يتحقق أصلا ما لم يكن ممارسة فالمعرفة لا تكون صحيحة إلا إذا أمتحنت بالعمل ...)) . والإيمان الحقيقي يقضي أن تستمر المبادئ فاعلة على الدوام وتطويع الممارسة اليومية وفقا لمنطلقات المبادئ يشكل الضمانة إزاء الإنحراف ويحول بين الثورة وبين أمراض الثورة ؛ إن الجلد الذي يتعلمه المناضل وعملية الصراع التي يخوضها مع نفسه لمجابهة الإغراء تعيد بناءه وتمنحه القدرة على الصمود أمام مغريات السلطة . إن تحول المناضلين الى طبقة جديدة إنما ينتج بالدرجة الأولى عن الإنفصال الذي نلحظه أكثر الأحيان بين المبدأ والسلوك في حياة المناضل وتجاهل هذه الإزدواجية وقبولها أحيانا كشيء طبيعي يؤدي بالنتيجة الى طغيان معطيات السلوك على معطيات المبدأ والى تراجع الجانب النضالي في الشخصية أمام الجانب النفعي فيها . ولعل حياة ميشيل عفلق نفسه يمكن أن تكون القدوة لكل المناضلين التقدميين في وطننا البعثيين منهم وغير البعثيين فإلحاح الرجل على تطويع السلوك وفقا للعقيدة مسألة برهن على إمكانيتها في سلوكه وفي منطقه ونادرا ما أتيح لأي سياسي عربي كما أتيحت لميشيل عفلق فرصة لأن يكسب شخصيا من القابلية الفكرية والمكانة السياسية من الجاه أو النفع المادي لكنه ظل قانعا من الحياة بما يقيم أوده ويمنحه القدرة على الإستمرار في العطاء حتى أنه في الظروف التي تطلع غيره فيها للمنافع بدا قاسيا على نفسه والى الحد الذي يرسم أمامنا صورة قديس من اولائك الذين إقتاتوا على الكلمة فرحين بما يجره الإيمان المخلص من عذاب . ونسأل لماذا يخفت صوت الرجل حتى كأنه قد ضاع عندما يصل البعثيون الى السلطة وتجد أن الصمت كلام بليغ وأن ما يفرح ليس الحكم بل العيش مع الناس ومشاركتهم مرارة الحياة . وإعتراضات ميشيل عفلق على حزبه وفاقه لا تنتهي سيما عندما يكون الحزب في السلطة فأية سلطة تلك التي تستطيع ن ترفع المثل الأعلى الذي رسمه البعث ؟؟؟ إن مثل هذه السلطة لم توجد وإن قادها البعثيون أنفسهم . ولكن وجود البعثيين فيها يمنحها القدرة على النمو والتطور حتى تلتقي في النهاية مع المثل الأعلى حتى تستحيل الأرض سماء . والبعثيون يستشعرون عدم الرضا عند القائد ويفرحون به فرحا طفوليا إن سخط الرجل يمنحهم الأمان ويدفع عن أنفسهم الشبهات فمن حقهم أن يبتهجوا عندما يجدون أن المبادئ لا زالت ماثلة وأنها ترصد وأنها لن تسمح وأنها تحاسب على الجزئيات وتجد التساهل في الأمور عندما تصغر يمهد لتساهل فيها عندما تكبر . إن هذا الإيمان بالمثالية أقل ما يقال فيه أنه يرفض الإستدلال بالمفاهيم السوقية والساذجة إن لم تكن وافية بالغرض منسجمة مع الحقيقة فليس المهم أن تكون مع هذا الجانب أو ذاك إنما المهم أن تقف مع الحقيقة أو ضدها ولا أحسب أن فلسفة الثورة العربية راضية بالتقسيم الهندسي إن صح التعبير بين ما هو مادي وما هو مثالي وليست المادية ووليدتها الإشتراكية خاليتين من المثال بمعناه الحقيقي وليس بمعناه الإصطلاحي . إن الإشتراكية تتجسد مثالية من خلال إيمانها بالإنسان وقدراته وبقيم الحب والخير ؛ ولإن عادت هذه المفاهيم الآن مفرغة من معناها فمردّ ذلك كثرة التكرار وكثرة الدعاة لها عن كذب لكن هذه المفاهيم أو هذه الكلمات تحتفظ لدى ميشيل عفلق بحرارتها نها مازالت صادقة لأنها لمّا تزل تعبر عن الجوهر والطبيعة الصافية : (( ظللنا زمنا طويلا نعيش في جو خانق لأنه كاذب طلاق بين الفكر والنفس بين اللسان والقلب كل كلمة نقولها تحدث وقرا في الأذن والنفس لأنها مفرغة من معناها كل كلمة نقرؤها تحدث إرتعاشا في بصرنا وألما وتترائ كالشبح والظل تذكرنا بشيء إنقطع عهدنا به فهي تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه فيجب أن نعيد الى الألفاظ قوتها ومعناها ومقامها وحرمتها أن نجعل الكلمة مخبرة عن عمل قمنا به بعد أن كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه علينا أن لا نقول إلا ما نقدر على تحقيقه حتى يأتي اليوم الذي نقدر فيه أن نحقق كل ما نقول ...)). وأخيرا فإن الفكرة لدى مؤسس البعث لتطرح نفسها حارة صافية دون قافية دون عروض جاعلة من القومية ومطارق العمل وخشونة الفلاحين ومعضلات السياسة العربية أنغاما ترقص على شواطئها النجوم . إن أسلوب ميشيل عفلق يتسع لهموم الإنسان وأفراحه لأنه غير مقصود لذاته ؛ إن الرفيق ميشيل عفلق رجل تاريخي لا لأنه يرغب بل لأن عواطفه وأفكاره تتجه كلها في نسق واحد نحو الإنسان ونحو الأمة من خلال شعور إنساني مرهف ونبيل : (( إنني أفكر بكل الذين يتململون في زوايا القبور من ثقل الآمال التي لم يتح لهم المجتمع تحقيقها ومن كنوز الخير والحب والحماسة التي بقيت كامنة في قلوبهم وما تسنى لهم إظهارها وإستخدامها إنهم أشبه بشجرة مورقة تقطعها وتلقيها في النار فتزهر وهي تحترق ...)) . إن ميشيل عفلق نفسه يزهر وهو يخترق وإذا كان الأسلوب هو العصر كما يقولون فإن الأسلوب هو الرجل كما قالوا .
بحث منشور بمجلة آفاق عربية العدد 08 نيسان 1978 | |
|