عزالدين القوطالي عضو ذهبي
عدد الرسائل : 113 العمر : 56 12/12/2007
| موضوع: نصّ الحوار التاريخي بين بدر شاكر السياب وميشيل عفلق الإثنين يوليو 14, 2008 5:18 am | |
| نصّ اللقاء التاريخي بين بدر شاكر السياب وميشيل عفلق هناك من يسميه الرجل الصامت - لأنه يفكر ويجسد أفكاره حقائق تنبض بالحياة وبدفء القلب الإنساني، اكثر مما يقول. وهو لا يتكلم الا حين يشعر ان كلامه هذا هو عمل يخدم به القضية الكبرى التي كرس لها حياته، وكل طاقاته الفنية وإذا نطق ادركت ان هناك رصيداً ضخماً من الفكر والثقافة وراء كل كلمة يقولها. هو ثروة ضخمة من ثروات هذه الأمة الخيرة الطيبة التي انجبت الأنبياء والصديقين والشهداء والمفكرين والابطال والشعراء. يكفي ان جزءا من فلسفته، ليس أعمق أجزائها ولا أغناها بالقيم الخالدة، قد أصبح الفلسفة السياسية الرسمية للجمهورية العربية المتحدة. وان أفكاره هي المسؤولة الى حد كبير عن تفجير الطاقات الهائلة لهذا الشعب العربي الذي يحرز في كل يوم إنتصارات رائعة في كل جزء من أجزاء وطنه الكبير من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي. لم تكن مقابلتي له في بغداد حيث يحل ضيفا كريما على الجمهورية العراقية، أول لقاء بيننا، فقد سبق لي أن زرته في مدينة العروبة الخالدة، دمشق بعد ان عرجت عليها عائداً من بلودان ومؤتمر الأدباء العرب الثاني الذي انعقد فيها قبل حوالي العامين وجلست اليه يومها مذهولاً أحس في صمته كيان أمة برمتها يتنفس عبر الاجيال وينبعث من رماده وناره، كما تنبعث العنقاء الخالدة من نارها ورمادها في أروع انبعاث وأعظم ميلاد. وأحس في كلماته روح أمة ورسالة أمة وثورة أمة ودار الحديث يومئذ في جملة ما دار حول الشعر الحر. وكان الأستاذ ميشيل عفلق مع الشعر الحر كحركة وكإمكانية قابلة للعطاء، وكان قد اطلع على بعض ما كتبه عدد من الشعراء العرب المعاصرين كعلي الحلي ونزار القباني وكاتب هذه السطور من الشعر الحر، فاعجب به وقلت له اننا نخشى أمراً واحداً هو ان يكون شعرنا الحر هذا مقطوع الصلة بتراثنا الشعري، والا يحمل ملامح من شعر طرفة بن العبد والمتنبي وأبي تمام وعباقرة الشعر العربي الآخرين، لأنه لن يكون له اية قيمة كشعرعربي - آنذاك، غير ان المفكر الكبير قال انه يحس بتلك الملامح في القصائد الجيدة من شعرنا الحر. سرعان ما تحول بنا مجرى الحديث الى الفلسفة التي تغلغل ميشيل عفلق بفكره وقلبه الى ضمير الأمة العربية فاستخرجها منه وسألته: متى تكونت لديك الخيوط الاولى لهذه الفلسفة فاجاب: لدي تحفظات في هذا الامر، الاول منها: انني لا اسمي الافكار التي ناديت بها طوال هذه السنوات الخمسة عشر فلسفة، وثانيها: انني لا اعتبر نفسي فيلسوفا ولا اعتبر افكاري فلسفة، ذلك ان الفلسفة هي الافكار المترابطة التي تؤلف بمجموعها نظرة معينة الى الحياة. وأطرق فيلسوف معركة البقاء والخلود والعطاء التي تخوضها الامة العربية ثم واصل الحديث قائلا: كان الفكر وما يزال يحتل مركزاً كبيراً عندي، ولكن عملي القومي خلال السنوات الخمسة عشر وقبلها، لم يكن عملاً فكرياً وإنما خلق حركة، للفكر فيها مكان أساسي، ولكن الحركة هي الأمل والهدف وهذا ما يفسر وجود ثغرات في تلك الأفكار التي تسميها انت فلسفة، كان العمل أهم من تكوين فلسفة وكان يلح علينا فنلبيه، على حساب تنظيم الفكرة وتنسيقها وتوسيعها. واصررت من جديد على ان هناك على الاقل نواة لفلسفة واضحة فقال الاستاذ عفلق: يمكن القول بان هناك فكرة اساسية مجملة كانت كافية لانطلاق الحركة اما ماظهر بعد ذلك من توسيع وتطوير وتصحيح لهذه الفكرة فقد جاء نتيجة للعمل وللتجربة. وعدت أسأله من جديد عن الخيوط الاولى لهذه الفلسفة: متى ولدت؟ فأجاب: ان فكرتنا، فلسفتنا القومية، بلغت درجة الوضوح والتماسك قبيل الحرب العالمية الثانية، بعد تجارب فكرية وعملية وبعد الاطلاع على المذاهب الفكرية السياسية المعاصرة كالماركسية وسواها من المذاهب الفلسفية والسياسية المختلفة وبعد تكون خميرة أدبية من المطالعات وقراءة الشعر والقصص والروايات. وذكرت الاستاذ ميشيل عفاق بانه كان شاعراً ممتازاً ذات يوم قبل اكثرمن عشرين عاماً وانني قد اطلعت منذ سنوات على إحدى قصائده القديمة فأعجبت بها غاية الاعجاب وانه اديب بالاضافة الى كونه فيلسوفا فقال: لقد بدأت حياتي بالادب ومع ذلك فلا اريد القول بانني اديب وكنت اعطي القيمة الاولى للادب والادباء في الفترة بين سن الخامسة عشرة والعشرين، ولكن نوع الادب الذي كنت أقرأه حتى في صغري كان على الاكثر ادباً فلسفياً، فقد قرأت المعري مثلا لزومياته وسقط زنده وأنا في السادسة عشرة من العمر وانتقيت لنفسي مختارات من اللزوميات، وكذلك المتنبي قرأته وانا في تلك السن نفسها ولما ذهبت الى باريس للدراسة بعد حصولي على البكالوريا كان الادباء الذين اغرتني كتبهم: أدباء مفكرين، لذلك كان من الطبيعي الانزلاق من الادب الى الفلسفة وأول فيلسوف تعرفت عليه عن طريق الادب هو "نيتشه" وقد شغل مكاناً خاصاً في مطالعاتي، كما اعجبت غاية الاعجاب بالقصصي الروسي دوستويفسكي. وتحدث المفكر العربي بعد ذلك عن اهمية التراث الادبي والفني في الاتجاه السياسي فقال: ان هذا التراث هو الذي يخلق في النفس عمقاً ولا يشترط فيه ان يكون واضحاً او مفهوماً فقد كنت مثلا، امتص الآثار الادبية والفنية التي اصادفها ولا اقرأها كناقد، ان تراكم المطالعة يخلق خميرة من العمق والغنى الروحي اعتقد ان لها اثرا غير قليل في تجنيب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الانسانية وحقيقة متطلباتها، كما انه يمكننا من معرفة ابعاد النفس الانسانية وغناها. وسرح المفكر الشاعر وكأنه وهو يتابع حلقات الدخان بعينيه - يتابع اسرابا، من الذكريات بذهنه وارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها من العطف والاسى والاشفاق ما لا يتسع له غير قلب كبير ثم قال: لي تجربة في الموضوع مع الآخرين، فقد مررت - ضمن الحركة وخارجها - باشخاص فاقدين لهذا التراث الروحي، فكانوا عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لان تفكيرهم يكون مجردا، رياضيا، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري الجامد. وعاد بنا الحديث من جديد الى الفلسفة القومية التي كان هذا المفكر العربي رائدها. وسألته عن راأيه فيما قال بعض قادة الفكر، في يوغوسلافيا من ان الفلسفة التي جاء هو بها، والحركة التي انبعثت منها منذ عام 1943 وراحت تواكبها فتغنيها وتغني منها.. انما يقدمان للانسانية حلا جديدا لمشاكلها التي عجزت فلسفات كثيرة عن حلها.. لقا سألت فيلسوفنا العربي عما اذا كان معتقد ان الفلسفة تقدم مثل هذا الحل لا على الصعيد القومي العربي وحسب، وانما على الصعيد الانساني؟ كنت اثناء مطالعاتي كلها افتش عن الاصول.. اصول هذه الفلسفة وخلقت هذه» المطالعات في نفسي تلك الخميرة الادبية والفلسفية التي تحدثت عنها، فجاءت الفكرة.. حين جاءت - على مستوى انساني لا على مستوى قومي خاص. ان في هذه الفلسفة محاولة اكتشاف للحقيقة القومية وبالتالي للحقيقة القومية العربية.. وإعطاء هذه الحقيقة مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية الخالدة واظهار ايجابيتها، وهي - لهذا - لا يمكن ان تصطدم او تتعارض مع الاتجاه الانساني، ذلك لانها حقيقة قومية ايجابية. وسألت المفكر العربي الكبير: بعد النجاح الهائل الذي حققته هذه الفلسفة بحيث تجسدت سياسة رسمية تسير عليها الجمهورية العربية المتحدة.. ماهي المرحلة التالية ؟ كنت اعتقد ان المهمة التي تنتظرنا هي اشبه ما تكون بالمهمة التي كانت تنتظر اجدادنا العرب - ابان الفتح العربي الاسلامي.- من اعادة جماهير الشعب العربي - وخاصة في العراق الذي كان الفرس يحكمونه وسورية التي كان الروم يحكمونها. الى حظيرة الامة العربية . ذلك ان جماهير الشعب العربي حسب هذا الوهم لا تعي من عروبتها سوى هذه الكلمة الدارجة التي تتكلمها وسوى قولها - نحن عرب - ثم بدد الاستاذ عفلق وهماً.. قال المفكر العربي الكبير: ان الشعب ما زال اغنى واعمق من قادته وما زال يفاجيء القادة باستمرار، فهو نزاع الى القيم الاصيلة المطلقة وهذا هو ما يربطه بتاريخه. وتمهل الاستاذ ميشيل عفلق قبل ان يستطرد قائلا: ان ما حققناه حتى الآن كان نتيجة تطبيق جزئي - وفي بعض الاحيان سطحي - لهذه الفلسفة والشيء الرسمي او الحكومي الذي اشرت اليه مازال بعيدا عن الفهم العميق الكامل المتماسك لفلسفة القومية العربية. ان انتصارات القومية العربية الاخيرة كان من الممكن ان تكون اقوى واكمل لو انها استندت الى فهم اكمل واعمق لهذه الفلسفة. فهناك اذن مجال واسع للتصحيح والتعميق. لعل انعزالنا نحن المثقفين في العراق عن جماهيرالشعب العربي (لاسباب كان ارهاب العهد البائد احدها) في حين ان القادة - بنسب مختلفة طبعا - لم يبلغوا بعد، الثقة المطلقة التامة بالقيم والمباديء التي ينادون بها. وهم - لذلك - لم يبلغوا الثقة التامة بالشعب وامكانياته. نحن اليوم في وسط الطريق، لقد سجلنا ارتقاء محسوسا بالنسبة الى المرحلة السلبية التي كان يقودها زعماء من طبقة غريبة عن الشعب بعيدة عنه، وكانت مهمة هذه الطبقة وعملها، خنق امكانيات الشعب بدلا من تفجيرها. وحين ودعت أستاذنا الكبير، وفيلسوفنا العربي المناضل.. كنت أشعر وكأنني استوعبت - خلال هذه الساعة التي قضيتها معه، منصتا اليه - القرون الطويلة من تاريخ هذه الامة العربية التي كانت وما زالت تنجب الانبياء والشهداء والفلاسفة والابطال والشعراء.
بغداد في آب 1958 (1) مأخوذ عن كتيب من منشورات مدرسة الاعداد الحزبي، وقد سبق لجريدة الجمهورية البغدادية في سنتها االاولى وفي العدد الثاني بتاريخ 9 آب 1958 ان نشرت لقاء مع القائد المؤسس الرفيق ميشيل عفلق أجراه الشاعر المرحوم بدر شاكرالسياب. ولأهمية تلك المقابلة واهمية اعتباراتها الادبية والثقافية، فقد اعادت صحيفة "الثورة" نشرها في عددها 1649 الصادر بتاريخ 27 كانون الاول 1973.
| |
|