موضوع: مبرّر نشؤء البعث الإثنين يوليو 14, 2008 5:25 am
مبرر نشوء البَعث
أحمد ميشيل عفلق
اذا كانت البرامج(1) هي أهم ما يصف الأحزاب ويعرّفها، فثمة شيء آخر قلما يعيره الناس اهتماما مع انه لا يقل عن البرامج قيمة وأهمية هو: الحالة النفسية التي يصدر عنها الحزب. لقد نشأ حزب "البعث العربي" في وقت وظروف كانت فيها ثقة الأمة بأفرادها وقادتها قد تزعزعت وأوشكت ان تنهار، فالقيادة القديمة التي أولاها الشعب ثقته في بدء مرحلة النضال السلبي عجزت عن مجاراة الشعب في نضاله وأخذت تساوم الأجنبي على إنهاء هذا النضال وافتتحت عهد السياسة الإيجابية قبل الأوان واستطاعت ان تقيم الدليل بأقصر مدة ممكنة على نفعيتها وانتهازيتها وضعف كفاءتها. لقد خيّبت القيادة القديمة أمل الشعب بها في نواحٍ رئيسية ثلاث: فهي تراجعت عن أمنية الشعب العربي في الوحدة العربية الكبرى وكادت تنحصر في نطاق العمل القطري، وهي قد نفضت يدها من العمل الشعبي النضالي واستسلمت لوعود الأجنبي ومغريات الحكم، وهي أخيراً قد أظهرت في حكمها من ضروب الفوضى والفساد ومن أساليب الإستئثار والإستثمار ما هوى بالحركة العربية من سماء الرسالة الى حضيض الحرفة والتجارة. تلك هي الحالة النفسية التي كانت تسود الشعب والتي استدعت ظهور تصحيح لها فكان حزب "البعث العربي". ونعتقد ان عكس هذه الحالة هو الذي كان سائداً عند ظهور الحركة الوطنية القديمة وتشكل حزب الكتلة . كانت الأمة إذ ذاك ضعيفة الثقة بنفسها لذلك منحت ثقتها سهلة رخيصة لأي فرد كان يتقدم لخدمتها ويدّعي تمثيل إرادتها والقدرة على تحقيق هذه الإرادة. كان أهم شيء في نظر الشعب في تلك الأوقات هو ان يصمد لوطأة الإستعمار ويُبقي على حياته ووجوده، غير مبال بالشكل الذي يمكن ان تتخذه تلك الحياة، وبالمعنى الذي يتضمنه ذلك الوجود، لقد كانت المسألة مسألة بقاء او فناء. ولكن بعد أن قطع الشعب العربي أشواطاً في الجهاد والنضال أعادت له شعوره بعِظم أهدافه ومراميه وحقيقة وجوده العربي الأصيل، فلم تعد المشكلة بالنسبة اليه مجرد البقاء والحياة، بل الحياة العربية البناءة الصادقة . هكذا أدّت به المقارنة بين آماله الواسعة وإمكانياته الغنيّة وبين عجز القيادة القديمة وتقصيرها الى نزع الثقة من كل من يتصدى للقيادة، والى التشكيك في مقاصد كل من ينبري للعمل العام. في تلك المرحلة الجديدة من تاريخنا الحديث، كاد عجز القيادة الوطنية ان يسلّم افراد الأمة لليأس وما يجرّه اليأس من جمود او انحراف. لقد وجدت الدعوات الضارة والحركات الشعوبية مرتعاً خصيباً لعملها وافسادها، وأوجدت عذراً وذريعة لكل من أغراهم اليأس بالفرار من تحمل مسؤولية أمّتهم فراحوا يلوذون بأحلام عقيمة مستحيلة تخرجهم من دائرة قوميتهم وشخصية أمّتهم وتاريخها، او يؤثرون التقلص والإنكماش في نطاق قوميات صغيرة مصطنعة، كل ذلك بدافع الفرار من مجابهة الواقع وواجب معالجته المعالجة الصحيحة الناجعة. وقد كان الواجب ان توجد الفكرة التي ترتفع الى مستوى استعداد الشعب العربي للنضال، وتتسع لكل ما يتمخض عنه هذا الشعب من قوى الإنشاء والإبداع. سيذكر الشعب العربي "للبعث العربي" انه وجد في الوقت المناسب والظرف العصيب ليرجع بأسلوبه النضالي المثالي الى الأمة ثقتها بنفسها وبأفرادها، وليتسع بفكرته الإنقلابية الإيجابية الشاملة لكل ما يلبّي حاجاتها دون ما رجعة او انحراف، دون ما جمود او جحود . ولكن "البعث العربي" ما برح يذكر وهو لن ينسى ابداً ان وجوده كله مستمد من الشعب العربي وانه لا فضل لرجاله وافراده في تكوين الفكرة وتنظيم الحركة، لانهم لم يكونوا سوى مفصحين عن حاجة عميقة في الشعب، وناقلين صادقين لرغبته التي لا يفخرون بغير السبق الى تلمسها و تلبية ندائها. أيّها الإخوان
حدّثكم الخطباء عن الإنتخابات وهي حديث هذه الأيام وقالوا ان الشعب ينتظر ان تكون نتيجة الإنتخابات إنهاء لفلسفة عقيمة مشؤومة، إنهاء لعهد أسود، إنهاء لصورة كاذبة أراد القائمون على الحكم في سوريا وفي باقي الأقطار العربية ان يظهروها كأنها الصورة الحقيقية لأمتنا الكريمة الأبيّة. والواقع هو ان في البلاد العربية اليوم اتجاهين يحمل كل منهما عن المجتمع العربي صورة جد مختلفة عن الصورة الاخرى، وعلى الشعب اليوم عندما يقوم بممارسة حقه في الانتخاب ان يختار بينهما: مجتمع سادة وعبيد، يحكم فيه الشعب بالضغط والخوف والتلاعب والكذب في سبيل حصر الجاه والثروة بين ايدي عدد قليل من محتكري النفوذ ومحترفي السياسة ويكون فيه طريق العمل والتقدم مفتوحاً ومعبّداً امام المواطنين بقدر ما يظهرونه من خضوع وممالأة للحاكمين ومن استخذاء امام جورهم وسكوت على مؤامراتهم وفضائحهم وتسابق في خدمتهم وتنفيذ اغراضهم. تلك هي الصورة التي تسعى الفئة الحاكمة الى فرضها وتحقيقها. أمّا الصورة الثانية فهي التي تنبعث عن ارادة الشعب وتتجاوب مع اعمق حاجاته ومشاعره وخصائصه والتي تجد اقوى واصدق تعبير لها في افكار الجيل العربي الجديد وحركاته، فهي صورة مجتمع يكون الشعب فيه مالكاً لمقدراته ممثلاً برجال ينبثقون من اعماقه ويتحسسون بآماله وآلامه، ويدركون ادراكاً عفوياً فقره وجهله ومرضه، ويشعرون بمسؤوليتهم الخطيرة حياله ويمثلون عبقريته الكامنة ونبوغه المكبوت. مجتمع ينافس ماضيه ويطمح الى استباقه، وينقلب على حاضره، ويحشد كل قواه وامكانياته في سبيل مستقبله. مجتمع تعلو فيه ارادة الشعب على كل ارادة او سلطة او حكومة او زعامة. هذا ما يريده الجيل العربي الجديد، وذاك ما تريده الفئة الحاكمة، من اقطاعيي البلاد ومحترفي السياسة فيها . ومن هنا تظهر الخطورة الكبرى التي تحملها -في نظرنا ونظر الشعب- مرحلة الانتخابات القائمة حاليا، لان على نتائجها سيترتب انتصار احدى الارادتين: ارادة الفئة الحاكمة او ارادة الجيل العربي الجديد. فالشعب العربي وفي طليعته الجيل العربي الجديد يدرك تماما الآن ان سوريا التي سبقت غيرها من الاقطار العربية في التحرر النهائي من الأجنبي تتحمل اليوم مسؤوليتين خطيرتين تجاه نفسها وتجاه الأمة العربية كلها. فهي مسؤولة اولاً عن تقديم البرهان القاطع على ان الاستقلال انما يعني الجدارة والكفاءة لفهم الحرية المنسجمة مع الواجبات القومية، وفهم الحكم الدستوري الاستقلالي وتحقيق الإنقلاب على كل ما خلّفته عهود الإستعمار والظلام من فساد الأنظمة الإجتماعية، وتقييد لقوى الشعب المبدعة، وتشويه لقيم العروبة الرفيعة التي كانت دوماً مؤتلفة ومترادفة مع فكرة الحق والحرية والعدالة . والمسؤولية الثانية التي تترتب على سوريا في العهد الاستقلالي العتيد هي مسؤولياتها تجاه الاقطار العربية وواجبها في العمل على تحريرها من كل نفوذ أجنبي والسير بها نحو الوحدة المنشودة والعمل على بناء العروبة الحرة الموحدة، ودفع الأخطار عنها، تلك الأخطار المعنوية التي تهدد اخلاقها وكيانها، والأخطار المادية التي تهدد ارضها وثرواتها. وواضح جداً ان الأحداث التي تعاقبت على البلاد منذ الإنتخاب الماضي حتى الآن، ومواقف الفئة الحاكمة حيال هذه الأحداث واساليبها في معالجة المشاكل الداخلية والخارجية قد برهنت تماماً على ان هذه الفئة قد عجزت كل العجز عن القيام بأعباء مسؤوليات العهد الإستقلالي الضخمة، ذلك لأنها أقامت حكماً مهلهلاً متداعياً لا يستند الى ارادة الشعب ولا يسيره برنامج علمي واضح منبثق عن دراسة شاملة عميقة لمشاكل الوطن وأمانيه. أيّها الإخوان
تحتل دمشق في هذا الظرف مكاناً بارزاً في الركب العربي له اثره البالغ في تقرير مصير سوريا ومصير البلاد العربية، فهي مفتاح السياسة السورية، والى حد كبير مفتاح السياسة العربية ايضاً. ذلك لأنها غدت بعد فوزها باستقلالها الناجز اليد الطليقة من الجسم العربي المكبل، والزاوية الحرّة من الصرح العربي الذي تعبث فيه اهواء المستعمر وتسيطر عليه فئات من صنائعه ومرتزقيه . ومما يعزز أهميّة دمشق أيضاً هو ان الحكم في سوريا يتأثر بالدرجة الاولى بجوّها وتياراتها. والفئة الحاكمة، التي تدرك ذلك كله، تحرص كل الحرص على ان لا يفلت الأمر من يدها في هذه المدينة. فهي قد تتساهل وتنحني امام موجات المعارضة في المناطق الاخرى، ولكنها تبذل قواها كلها وتطلق كل ما لديها من اساليب المناورات والدس والفرقة لكي تحطم المعارضة في دمشق، وتفرض رجالها نواباً عليها وتصبح سيدة الموقف فيها. فدمشق مسؤولة اذن عن قيادة معركة الإنتخابات نحو الظفر، وتغيير مجرى هذا الحكم بتأييد الرجال الأحرار الذين يدركون هذا الواقع الفاسد ويلمسون استياء الشعب ويرسمون البرامج العملية والعلمية الصحيحة للمستقبل . ان الدلائل كلها تنذر بأن الشعب قد بلغ حداً كبيراً من الإستياء، وان التناقض بين حقيقة الشعب وواقعه، بين ارادته وبين السلطات الرسمية التي تدّعي تمثيله لهو تناقض فاضح مخيف. لقد بلغ هذا الإستياء والتناقض حدّاً خطيراً لا يزول الاّ بالنضال القوي العنيد والمعارضة الواعية الرافضة لهذا الحكم هي البناء والغيرة على الاستقلال بعينهما وهي نداء الضمير العربي الذي لا يقيم على ضيم ولا يسكت عن ظلم ولا يصبر على اختلال ميزان الكفاءة والعدالة والمساواة.
ايّها الإخوان
هذا ظرف للكلام والتبشير والدعاية في نظر غيرنا، وهو في نظرنا اهم واسمى من الدعاية للأحزاب والأشخاص لاننا نعتبره ظرف التوجيه ومتابعة النضال القومي المجرد عن كل غاية حزبية او شخصية ضيّقة، ونعتقد ان له اصدق مساس بالمصلحة القومية العليا. فلنترك الدعاية لغيرنا ولنبادر الى المسؤولية العامة الملقاة على عاتق كل منا، تلك المسؤولية الضخمة التي ترمي الى تحويل الشعب عن السير في طريق الهاوية. ان البعث العربي الذي تكلم وعمل في الأوقات التي كان الكلام فيها محرّماً والعمل متعذّراً أيام الإستعمار ووطأته الشديدة والطغيان الداخلي ليس بحاجة لان يتكلم اليوم كثيراً من اجل الدعاية لنفسه لانه مؤمن بأن عليه واجباً قوميّاً خطيراً هو ان يوجه ويذكّر. وان الاساس الذي بني عليه الحزب من الثقة التي لا حد لها بالشعب العربي هو الذي يسمح له بان يتفاءل بالمستقبل كثيراً وان ينتظر من الشعب الذي خطا خطوتين جبارتين في معركة الملاكات ومعركة قانون الانتخاب الاستجابة الى دعوته الصادقة المخلصة لحل أزمة الحكم الفاسد والتطويح بهذه الطبقة النفعية المستأثرة المستعبدة لمصالحها الخاصة. أيّها الإخوان
ان البعث العربي يعرف مكانه الحقيقي في موكب النضال، وهو اذ يقدم على تحمّل مسؤولياته الجسيمة يدرك تماماً ان الشعب قد يتساهل مع المسيئين ولكنه لا يتساهل مع المخلصين لانه ينتظر منهم أن يحققوا كل الآمال وهذا ما ينتظره في المستقبل القريب.
20 حزيران 1947 (1) كلمة في حفلة البعث الانتخابية، نشرت في جريدة "البعث" العدد 200 و201.