لماذا نحرصُ على الحرية
معركة الحرية معركة حياة أو مَوت
أحمد ميشيل عفلق
كانت عقيدتنا (1) دوماً أن الحرية ليست شيئاً كمالياً في حياة الأمة يمكن الاستغناء عنه، بل أنها أساس هذه الحياة وجوهرها ومعناها. والحرية لاتتجزأ فلا يمكن أن نثور على الاستعمار الأجنبي ثم نسكت عن الاستبداد الوطني، لأن الدافع الذي كان يحركنا ضد الاستعمار هو نفسه الذي يمنعنا الآن من الرضا بالاستبداد. ونحن مقتنعون بأن الاستعمار هو خطر ماثل دوماً، ممكن الوقوع أبداً، فإذا عوّد الشعب على الاستهانة بالحرية والرضا بالخنوع، كان معرضاً في كل دقيقة لعودة الاستعمار الأجنبي من جديد. أما الذين لايستطيعون أن يحكموا الشعب إلا إذا استعبدوه، فهذا الشعب الذي غلب الاستعمار سوف يريهم كيف يستطيع التخلص من حكمهم والتحرر من عبوديتهم.
إن الفئة المتحكمة اليوم بمصير البلاد مسوقة حتماً إلى استغلال الحكم بكل الوسائل، لأنها مضطرة إلى إرضاء الأسر الكبيرة التي إنما جاءت هذه الفئة إلى الحكم لتمثل مصالحها، والى إرضاء الأنصار الذين تعتمد عليهم، وتيسير مصالح كبار التجار الذين يسندونها في الظروف الحرجة. ولكن هذا الاستغلال لثروة البلاد ووظائف الدولة ليس هو اكبر اخطار هذه الفئة، لأن البلاد قد تحملت من استغلال المستعمر وسرقاته ما هو أشد وادهى، واستطاعت بالرغم من ذلك أن تحفظ بقواها النضالية وتظفر آخر الأمر باستقلالها، ولكن الخطر الحقيقي الجسيم هو في أن الفئة الحاكمة، لكي تصل إلى ما تريد من استغلال لثروة البلاد ووظائف الدولة، لا تستطيع أن تلجأ، كما كان يفعل المستعمر، إلى قوة الجيش، أو أن تتذرع بحق الفتح، ولا بد لها لذلك من أن تحتال على دستور الدولة وقوانينها، لكي تحول دون مراقبة الشعب لها، واعتراضه على اعمالها، ومن هنا يأتي عداؤها للحرية واعتداؤها عليها.
هكذا تبيح الفئة الحاكمة لنفسها أن تضحي بأهم مقومات حياة الأمة وأقدس قيمها، وهي الحرية، في سبيل ضمان الاستغلال المادي، فالحرية لا تعني غير تربية الشعب تربية أخلاقية قومية صحيحة. اما الشعب الذي يحال بينه وبين الاطلاع على الحقيقة ويرى الخطأ فلا يتمكن من إصلاحه، ويلمس الفساد الصارخ فلا يسمح له بأن يرفع صوته في وجهه، ويشاهد إرادته تشوه أمامه فيراض بالضغط والحيلة والرشوة على قبول هذا التشويه، والنظر إلى مشوهي إرادته، وخائني أمانته، على أنهم ممثلوه الشرعيون الحقيقيون، إن شعباً كهذا لا يقوده الحكام نحو الاستقلال والحكم الذاتي، بل يقتلون فيه الفضائل التي كسب بها استقلاله ويطفئون في قلبه الشعلة التي وعى على ضوئها ذاته، ويعرضون حرية وطنه للضياع، لأنهم أفسدوا عليه معنى الحرية.
وبعد، فلسنا في حرصنا على الحرية ودفاعنا عنها نتعلق بشيء نظري لا علاقة له بالواقع، فالحرية هي التي تسمح للشعب أن يعرف أين يذهب خبزه اليومي، وكيف تبذر ثروته وثمار عمله وإنتاجه، ولماذا يتلاعب الحكام بالوظائف ويفسدون الضمائر ويعبثون بالكفاءة، ويستعبدون النزاهة، لكي يضمنوا نجاحهم في الانتخابات، ويبقوا البلاد في قبضتهم مانعين عنها كل تقدم، فارضين عليها الاستمرار في التدهور الأخلاقي والإفلاس المادي. والحرية هي التي تتيح للشعب أن يعرف المدى الذي بلغه في تحقيق استقلاله وتوطيده، والنواقص التي تشوب هذا الاستقلال والأخطار الأجنبية التي تهدده فيدرك السبب في هذا التقصير الملموس تجاه قضية حيوية كقضية فلسطين. ويعرف السر في هيمنة النفوذ الأجنبي على سياستنا العربية، وانحصارنا في نطاق هذا النفوذ وتقيدنا به. ويطلع أخيرا على تغلغل الشركات الأجنبية في بلادنا، وابتلاعها لنقدنا وثرواتنا واستبدادها بعمالنا، وتآمرها علينا بشكل يجعل من استقلالنا هيكلاً عظمياً لا لحم فيه ولا دم.
فالدفاع عن الحرية إذن هو دفاع عن حياتنا، لذلك فمعركة الحرية ستكون معركة حياة أو موت، ولن تخدعنا تلك الحجج الواهية التي تتذرع بها الحكومة لتقول أن للحرية أضرارا ومحاذير. فنفع الحرية يربو على ضررها، وان اطمئناننا على سلامة أرضنا وأخلاق أمتنا، ومستقبل أجيالنا، لأعز علينا وأغلى عندنا من الحرص على هيبة الحكم وراحة الحاكمين.
ليست الحرية مواد في الدستور، ونصوصاً في القوانين، وليست هي مجرد موضوع للخطابة والكتابة، ولكنها عمل قبل كل شيءً، إنها لن تدخل حياتنا مالم نرخص الحياة في سبيلها، ولن نفرض على الحاكمين احترامها، ونشعر الشعب بقيمتها وقدسيتها، إذا لم يكن إيماننا بها جهاداً، ودفاعنا عنها استشهاداً.
9آب 1946
(1) نشر في جريدة "البعث" في 9 أب 1946.