العلاقة الجدلية بين الوحدة والرسالة القيادة العليا للجهاد والتحرير
امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) هذا الشعار الذي تردده بخشوع وزهو مئات الآلاف من الحناجر في الوطن العربي،والذي رددته في دمشق منذ ستة عقود يوم كان البعث فكرة سامية تراود مخيلة مجموعة من شباب العرب المؤمنين بقدر وحتمية انتصار أمتهم في تحقيق رسالتهم الخالدة... فاذن هذا الشعار ما معناه وما حقيقته وما دلالاته؟.
يتلوا البعثيون شعارهم هذا في مبدأ اجتماعهم وقوفا خاشعين مستذكرين حقيقة أمتهم وشخصيتها ودورها الكبير في التاريخ والرسالة التي تنهض بها الآن وفي المستقبل، ويتلونه في ختام اجتماعهم أيض، ويصدرون به دراساتهم الحزبية والفكرية ورسائلهم التنظيمية وتقارير اجتماعاتهم وكل أدبياتهم ويرفعونه عاليا في احتفالاتهم ومسيراتهم ومظاهراتهم وأعيادهم القومية، ويشعر البعثيون أنهم حين يفعلون ذلك يقومون بواجب مقدس.
كان اول ظهور للشعار في ادبيات الحزب عام 1943، ولم يكن الشعار انذاك يتصدر البيانات السياسية للبعث وإنما بدا يظهر في نهاية عام 1944، ثم بدأ يتصدر البيانات والنشرات الداخلية حتى اصبح البعثيون يرددونه في مبدأ اجتماعاتهم وختامها... واكتسب هذا الشعار صفته الرسمية بميلاد الحزب رسميا، اذ ثبت ذلك في دستوره الذي اقره مؤتمره التأسيسي عام 1947، فقد ورد في المبدأ الثالث من المبادئ الأساسية الثلاثة للدستور، ان الأمة العربية ذات رسالة تظهر بإشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ وترمي الى تجديد القيم الإنسانية وتحفيز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الامم.
ان التأمل في المعاني والدلالات التي ينطوي عليها شعار امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة يكشف عن ان هذا الشعار تعبير عن المعانات الحية الصادقة التي مرت بها الامة عبر تاريخها الطويل الحافل بالاحداث الجسام،وهو انسجام فكري حقيقي ينم عن الفهم الواقعي لحاظر الامة وماضيها مستشرفا ما ينتظرها من مستقبل نير متقدم مزدهر، ان الشعار في الوقت الذي يولد فيه الحاضر ويستند الى الماضي فانه يرنو الى المستقبل بأفق مفتوح.
وواضح من تلاوة الشعار انه يتكون من جزأين مترابطين بالمعنى والدلالة، اما صدر الشعار (امة عربية واحدة)فيؤكد حقيقة ملموسة بالشواهد التاريخية والواقعية وهي ان الامة العربية امة واحدة، وبذلك فهو يتضمن حقيقة اخرى تلك هي ان التجزئة الراهنة للامة العربية والوطن العربي امر مصطنع ابتلت به الامة بسبب الاستعمار وما جرته عليها عهود التخلف وضعف الوعي القومي،ان الوحدة في منظور البعث تقوم بجهود الجماهير ونضالها الاشتراكي ممتزجة بتجربة الامة في مرحلتها التاريخية، ومثل هذه الوحدة تمثل تجربة انسانية عميقة فهي على ذلك عملية خلق جديد للامة وعملية بعث لها ومن ثم لا يمكن ان تكون (عملية الية) (لان التاريخ لا يرجع الى الوراء والامة الحية تجدد نفسها باستمرار) والوحدة فكرة ثورية وعمل ثوري وليست عملية جمع ووصل وليست هي عملية مادية بل هي صهر جديد من خلال التجربة الجديدة للعرب في مواجهة التحديات ومؤامرات الاستعمار.
اما ما يعنيه الشطر الثاني من الشعار (ذات رسالة خالدة) فهو تأكيد على ان الامة العربية ذات قيم قومية عليا ومثل انسانية سامية وان لها اهدافا كبرى تعبر عن طموحاتها في الحياة الكريمة وتسعى دوما الى تحقيقها وتناضل من اجل بلوغها،وتحقيق الربط الحي بين ماضيها ومستقبلها المنشود، ويستشف بشكل واضح من معنى الرسالة الخالدة، التأكيد على الثقة بإمكانات الامة العربية الكامنة وقدراتها المكبوتة التي عطلتها التجزئة وظروف القهر والاستعمار، وواضح ايضا من كون الرسالة هي التصميم واستعداد الامة للابداع والعطاء والمشاركة في بناء الانسانية واغناء مسيرة الإنسان على الارض.
ان الرسالة الخالدة في فكر الحزب تعني ان للامة العربية دورا اساسيا في بناء التاريخ وان من حقها ان تطمح لبلوغ هذا الدور،فتحقق لنفسها الاستقلال والتقدم،ولأبنائها المستوى الحضاري الذي يقدرون من خلاله على الاسهام مع الامم الاخرى في بناء صرح الحضارة الانسانية الشامخ بما يهئ السعادة للبشرية ويعزز التعاون بين شعوب الارض، والعرب اذا ما تطلعوا الى بعث امتهم فذلك خير ما يقدمونه للبشرية. ولكي تعاود الامة العربية دورها الايجابي الفعال في تحقيق رسالتها الإنسانية يجب ان تحقق عناصر ممارسة هذا الدور على الصعيد القومي... هكذا تكون رسالة العرب الخالدة هي دورهم النضالي التاريخي الذي ينزع الى اقامة المجتمع العربي الموحد المزدهر، الذي تتكافئ فيه فرص المواطنين وينتفي فيه الاستغلال وتفتح طاقات الانسان ويزدهر ابداعه بما يمكنه من العطاء للبشرية جمعاء... هذا المجتمع الذي لن يبلغه العرب الا بالكفاح الشاق المرير والمعانة الذاتية والنضال الثوري المنظم لإحداث التغيير الجذري الشامل في واقعهم المختلف الفاسد... ولا ريب ان فكرة الرسالة التي يتضمنها هذا الشعار تمنح عقيدة البعث خصوصيتها الحضارية وأفقها الانساني بما يلهب الحماس ويرفع المعنوية النضالية في نفوس المؤمنين بهذه العقيدة... لقد جائت كلمة الرسالة موصوفة في الشعار بانها خالدة،والخلود هنا جاء بمعنى القدرة على التجدد والتطور والانبعاث والتكامل،وهو بهذا الوصف يعني الاستمرارية ودون تخلف،وهو مرتبط بهذا السياق بوجود الامة العربية وحيويتها وقدرتها على البقاء والانبعاث،الشواهد في هذا ما قدمته الامة العربية على كل هذه الأصعدة من انجازات علمية وفكرية وادبية وفلسفية في ادوار تاريخها الحافل بالعطاء والابداع الحضاري تكشف عنها مسيرتها الحضارية المتميزة التي اهلتها لان تكون حلقة متينة في سلسلة تطور الحضارة الانسانية،وان تكون انجازاتها القاعدة الاساسية للنهضة الحديثة في العالم، فحضارات وادي الرافدين السومرية والاشورية والاكدية والبابلية وحضارة المصريين القدماء وحضارات اليمن والهلال الخصيب والعطاء الكبير والثر للاسلام تمثل كلها حقا مسيرة حضارية متميزة ومعطاء. هكذا تجيء صفة الخلود في سياق الشعار لتؤكد معنى قدرة الامة العربية على التجدد والتطور والعطاء كما تؤكد استمرار هذه القدرة باستمرار الامة وخلودها وان هذه القدرة ستتجسد حيث يتاح لها الظهور عندما تتهيأ للامة فرصتها التاريخية وتكون في حالتها الصحيحة وتجاوز التجزئة المصطنعة والتخلف. ان دور الرسالة في فكر الحزب ونضاله يكتسب مشروعيته ومصداقيته وجديته في اطار النضال الوحدوي فالوحدة شرط اساسي في بلوغ مستوى الرسالة، وتحقيق العمل الوحدوي الكبير هو الاخر لا يكتسب هذه المشروعية والمصداقية والخبرة الا حين يكون باتجاه تحقيق الرسالة ومن هنا يتأكد معنى الترابط الجدلي بين شطري الشعار. ان بلوغ مستوى الرسالة وأدائها هو التعبير عن طموح الامة الكبير لتحقيق الانجاز الحضاري القومي والمشاركة الايجابية في بناء الحضارة الانسانية، وتعزيز قيمته، وهو امر لن يبلغ الا بالجهد والنضال المتواصل ولن يستطيع به الا الأداة القادرة على هذا العمل الجبار، لا يمكن ان تكون هذه الأداة الا في الحزب الثوري المنظم على مستوى أقطار الوطن العربي كله لذلك نجد البعث جعل الأداة(الحزب) شرطها للوصول الى هذه الغاية بل ركنا لا ينفصل عن عقيدته، فالامة العربية دون هذا الحزب لن يكون بمقدورها ان تبلغ امانيها الكبار وتحقيق مستوى الرسالة واشترط البعث في الحزب الذي يستطيع بلوغ الرسالة وحمل أمانيها ان تكون اهدافه معبرة بصدق عن اماني الجماهير وحاجاتها وان يعتمد الاسلوب الثوري في فكره ومسيرة نضاله، وان يتخذ من جماهير الامة وسيلة وغاية لنضاله، وجعل البعث مهمة النضال لبلوغ اهدافه وتحقيق مستوى رسالته رهنا بظهور جيل عربي جديد واع لرسالته ومهمته التاريخية، لقد ندب حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه لهذه المهمة الشاقة واعتبر وجوده اداة للثورة وتحقيق رسالة الامة العربية الخالدة من خلال تاكيد هوية عروبتها وانسانيتها وحضارتها وخلودها، ومعنى هذا ان الخلود اهم خصيصة تتسم بها رسالة الامة العربية.