من جوف ليل بهيم، ومعاناة روح وجسد، وإصرار على نيل المطالب، تحديا للبغي والطغيان، خرج فارس مغوار غير هيّاب، يلوّح للمجد لكي يدنو منه، بعد أن انتزع قدرة الحركة على طريقهن فما كان من هذا الفارس إلا التحدي والإصرار، ومغالبة ذلك الواقع، وقد قيل أن الدنيا لا تؤخذ إلا غلابا، فراح يخوض الصعاب مستحضرا روح التأريخ، وما ورثه من شجاعة أهله وقومه الفرسان، وتألق بما يملكه من مواهب.
لقد ولد الفارس وهو يحمل على جسده الآم قومه وأمته، وتحمل روحه حفز مصلحة الوطن والشعب والأمة.. ليحوّل المعاناة إلى خزين خبرة، تقيه منزلقات النسيان أو التخلي، لتبقى جذوة الإيمان والصبر داخل نفسه، مثلما هي في فعله، والتحريض على العمل الجمعي الثوري هي بوصلة الطريق، بعد الاتكال على الواحد الأحد، وبما يجعل الماضي والتاريخ عمق مرحلته، وبيرق تطلعه، هما وما يجود به نضح فكرة مرحلته، وليس عبئا على حركته وتصوره.
ولد وهو يحلم بزمن يكون فيه الموقف شرفا، والحياة قضية والعمل جهادا..
هذه ببساطة فكرة ( رجال ومدينة)، الرواية التي بين يديك، عزيزي القارئ الكريم.. إنها رواية حافلة برموز حية، لا يزال بعض صنّاها أحياء، وساحات حركتهم خالدة تنطق بتاريخها، وتستذكر أمجاده، حتى بدا سفرها على لسان راوٍ شهد وجودها، وأقام بناءها، وعلاّه، وقدّم لها ما لم تقدمه حقب الزمان المختلفة، فأعزّها هيبة، وكرّمها تطورا، لتصبح قلاع تحدٍ تحكي صور ولادة فارس، ليس ككل الفرسان، وولادة جيل ليس ككل الأجيال، بل ولادة زمن ليس ككل الأزمان.
تقدم لنا الرواية جزءا من حياة نجم سطع في فضاء العراق، حتى كاد، هو وحركة فعله ومعاناته وحياته، أو هو هكذا، يرسم صورة مرحلة كاملة عن المعاناة، وحياة ونضال شعب العراق الوفي الأمين.. ولعل أهم ما يميز هذه الرواية – عزيزي القارئ- أنها تفصح بثقة عن شخصية كاتبها، كون أحداثها لم تكن نصباً من الماضي، أو رمزا تاريخيا مجردا، وإنما هي مسيرة ناطقة لحياة شعب من خلال حياة فارس، تعفف منذ نعومة أظفاره عن التورط في اللامبالاة، وترك الوطن (يحترق)، فكانت حياته النذر الذي درأ الحريق المنتظر آنذاك.. أو أنها حالت دون استمرارية الحريق الذي كان سيحوّل الحياة رمادا لو استمر وكبت الهمة ومنعها من أن تنطلق.
والرواية بهذا الوصف لا تعبّر عن ترميم مقصود لزمن محدد، وإنما هي هندسة فضاء زمني، يضاهي بآفاقه مكامن النور في التاريخ التليد، كان فيه التنافس على التضحية دربا للفضيلة، وكان الاقتراب من الحقيقة والحق منطلقا لتفعيل ما تختزنه النفس من طاقات وقابليات، حتى إذا ما لاحت أمام الفارس فرصة ليجد ذاته، اغتنمها، لكي يدافع عن حقه، وحق شعبه وأمته في الحياة والحرية ضد كل من استفحل شره، وعجز عن بناء دربه، أو استكبر في رؤية ذاته، فانتزع من القدر دور شعبه القومي، وألقم من يحاول سلب ذلك الدور حجرا، قبل أن تكتشف الجماهير العربية أن الحجارة سلاح ماضٍ ضد سالبي الحياة والحرية والمحتلين المجرمين.
تتدافع أمامك- عزيزي القارئ الكريم- وأنت تقرأ هذه الرواية، مواقف كثيرة، حملت معها مرتسمات خصبة لبناء درامي متميز، صوّرت إلى حد النطق، ظروفا مرّ بها الفارس، دون أن ينثني أمامها.. أو يستسلم لشروطها القاسية، بل حوّلها إلى اندفاعات مبصرة متوالية، ليؤسس منها منافذ يطل منها على حياة شعبه وأمته، وصارت حياته على قياس ما ورد في الرواية، مرآة لما يمر به الشعب والوطن، وفصول نضال وجهاد لم تنته حتى هذه اللحظة، أهم ما فيها رسوخ إيمان في صدر الفارس، ويقين بأن الغد يُصنع لا يُنتظر، وأن الأبواب لا تفتح إلا بالعمل، وأن عافية الدرب المشرّف لا يمكن أن تتم إلا بعد أن يتراجع الوهن داخل النفس، لتتوق لصنع المستقبل بفؤاد لا يعرف الوجل.
وقد حرص كاتب الرواية على أن لا يقع تغيير في شخوصها، أو مسرح بنائها. وكان حدود الحوار تلتقي عند خط شروع واحد، تضيق فيه كل احتمالات النكوص، وتؤسس عنده كل نقاط الانطلاق، وعندها تتهتك الحجب، بعد أن يقدم الشعب قرابين الشهداء على مذابح الحرية، التي شُوّهَت معطياتها بفعل أدعيائها، الذين ما أن رأوا عزم الجماهير، حتى تواروا في زوايا التاريخ، تلاحقهم إشارات الجماهير التي آمنت بأن مستقبلها لا يمكن ضمانه إذا كان الشك يحيط بمستقبل الوطن.
مع كل بناء في معمار الرواية، يبدأ توازي القابليات لدى شخوصها، التي ما تلبث أن تتجمع وتتسق في شخصية ثرة، ماهرة في رؤيتها لمفتاح الخلاص، وجدوى الدفاع عن الفضيلة، والحنو الشديد عليها. ولكي يعمّق الكاتب ذلك الشعور، تراه لم يدّخر وسعا إلا ورسخها بإطار حكمة تلو حكمة، لتصبح فيما بعد قوانين بناء للشخصية التي لا تهاب المنايا، ولا تخشاها، بعد أن يحصّنها من هواجس التراجع والتخاذل.. كأن الكاتب يدعو القارئ ليكون جزءا من شواطئ التاريخ وأعماقه، ليقبض بضميره ووجدانه على قوانينه، وليحقق ألفة بينه وبينها.. يمخر بها عباب الحياة... يحصّن نفسه عبرها، ويقدم الدليل على أن الموروث يمكن أن يكون محفزا لبناء الأمل، لا احتوائه، أو صهره و تذويبه، لتتوارى الخشية من إفساد الآخرين له مهما بلغوا من عتو.
لق جاء أسلوب الرواية، كما سترى عزيزي القارئ الكريم، مع كل الاندفاع الذي امتلكته روح الكاتب، مبتعدا عن أسلوب الحماس الخطابي، الذي اعتادت عليه روايات من هذا النوع، مثلما ابتعد عن الفاضلة بين الذاتي والموضوعي، طالما ظل الإيمان حاضرا، وظلت الإمكانات، منذ بواكير الطفولة، تبحث عن طريق الهداية والخلاص لكي تفعّل، لتتساوق مع لهيب الحماس الذي تنطلق منه، ولأجل ذلك ترى الرواية، وقد أسست مزية مضافة، تتفاضل بها العبارات، وتتلاقح الأفكار، لتلد عشقا كبيرا بين الكاتب وتاريخه، بين الشعب والوطن، والأهم بين الضمير والواجب.
وبعد كلّ هذا، عزيزي القارئ الكريم، أراك أمام حالة كأنها سيرة تنطق باسم النضال، بعد أن نقّب كاتبها عن منابعه الأصيلة، وتفيّأ بوهج الأمل، لتنفض عن كل خذول دواعي التقوقع، بعد أن تزوده بمهاميز العثور على ذاته... إنها رسالة مفاضلة بين الحق والواجب. وبين الوجود والتضحية، وتلك هي روح الفضيلة، توأم النضال، وبها لا يمكن لزمن، أو لما هو معاكس من رغبات ومناهج غير مشروعة تدجينها. ومتى ما امتلكها فارس وانتزع طريقه إليها، زحف المجد باتجاهه، ليعانقه.. وهكذا هي حال النضال...
ويبقى ( كاتبها)، رافضا أن يكتب اسمه على الرواية، تماما كما فعل من قبل مع روايتيه ( زبيبة والملك) و( القلعة الحصينة)، فما يبدعه أبناء أباة الضيم في العراق العظيم، دون ذكرٍ لأسمائهم، حريّ بجعله لا يفكر بوضع اسمه على رواية ( رجال ومدينة)، مثلما أراد...